فصل في ترتيب سياق
هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل
أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى : أن يقرأ باسم ربه الذي خلق ، وذلك أول نبوته ، فأمره أن يقرأ في نفسه ، ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ ، ثم أنزل عليه : (
ياأيها المدثر قم فأنذر ) [المدثر : 1 ، 2 ] فنبأه بقوله ( اقرأ) وأرسله بـ : (
ياأيها المدثر ) ثم
أمره أن ينذر عشيرته الأقربين ، ثم أنذر قومه ، ثم أنذر من حولهم من العرب ، ثم أنذر العرب قاطبة ، ثم أنذر العالمين فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ، ويؤمر بالكف والصبر والصفح . ثم أذن له في الهجرة ،
وأذن له في القتال ، ثم أمره أن يقاتل من قاتله ، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله ، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله ، ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة ، وأهل حرب ، وأهل ذمة ، فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد ، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد ، وأمر أن يقاتل من نقض عهده . ولما نزلت سورة ( براءة ) نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها ، فأمره فيها أن " يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام ، وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين
[ ص: 144 ] والغلظة عليهم فجاهد الكفار بالسيف والسنان ، والمنافقين بالحجة واللسان .
وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ، ونبذ عهودهم إليهم ، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام : قسما أمره بقتالهم ، وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له ، فحاربهم وظهر عليهم . وقسما لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه ، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم . وقسما لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه ، أو كان لهم عهد مطلق ، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر ، فإذا انسلخت قاتلهم وهي الأشهر الأربعة المذكورة في قوله : (
فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) [ التوبة : 2 ] وهي الحرم المذكورة في قوله : (
فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ) [ التوبة : 5 ] فالحرم هاهنا : هي أشهر التسيير ، أولها يوم الأذان ، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة ، وهو يوم الحج الأكبر الذي وقع فيه التأذين بذلك ، وآخرها العاشر من ربيع الآخر ، وليست هي الأربعة المذكورة في قوله : (
إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ) [ التوبة : 36 ] فإن تلك واحد فرد ، وثلاثة سرد : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم . ولم يسير المشركين في هذه الأربعة ، فإن هذا لا يمكن لأنها غير متوالية ، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر ثم
[ ص: 145 ] أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم فقتل الناقض لعهده ، وأجل من لا عهد له ، أو له عهد مطلق أربعة أشهر ، وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته ، فأسلم هؤلاء كلهم ، ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم ، وضرب على أهل الذمة الجزية .
فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول ( براءة ) على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة ، ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام ، فصاروا معه قسمين : محاربين ، وأهل ذمة ، والمحاربون له خائفون منه ، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به ، ومسالم له آمن ، وخائف محارب .
وأما سيرته في المنافقين ، فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله ، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة ، وأمره أن يعرض عنهم ، ويغلظ عليهم ، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم ، ونهاه أن يصلي عليهم ، وأن يقوم على قبورهم ، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم ، فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين .