فصل في
هديه صلى الله عليه وسلم في علاج السحر الذي سحرته اليهود به
قد أنكر هذا طائفة من الناس وقالوا : لا يجوز هذا عليه ، وظنوه نقصا وعيبا ، وليس الأمر كما زعموا ، بل هو من جنس ما كان يعتريه صلى الله عليه وسلم من الأسقام والأوجاع ، وهو مرض من الأمراض ، وإصابته به كإصابته بالسم لا فرق بينهما ، وقد ثبت في " الصحيحين " عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002604سحر [ ص: 114 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إن كان ليخيل إليه أنه يأتي نساءه ولم يأتهن ) وذلك أشد ما يكون من السحر .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض : والسحر مرض من الأمراض ، وعارض من العلل ، يجوز عليه صلى الله عليه وسلم كأنواع الأمراض مما لا ينكر ، ولا يقدح في نبوته ، وأما كونه يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله ، فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من صدقه ، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا ، وإنما هذا فيما يجوز طروه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث لسببها ، ولا فضل من أجلها ، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر ، فغير بعيد أنه يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له ، ثم ينجلي عنه كما كان .
والمقصود : ذكر هديه في علاج هذا المرض ، وقد روي عنه فيه نوعان :
أحدهما - وهو أبلغهما - استخراجه وإبطاله ، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سأل ربه سبحانه في ذلك ، فدل عليه فاستخرجه من بئر ، فكان في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر ، فلما استخرجه ذهب ما به حتى كأنما أنشط من عقال ، فهذا من أبلغ ما يعالج به المطبوب ، وهذا بمنزلة إزالة المادة الخبيثة وقلعها من الجسد بالاستفراغ .
والنوع الثاني : الاستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر ، فإن للسحر تأثيرا في الطبيعة ، وهيجان أخلاطها وتشويش مزاجها ، فإذا ظهر أثره في
[ ص: 115 ] عضو ، وأمكن استفراغ المادة الرديئة من ذلك العضو ، نفع جدا .
وقد ذكر
أبو عبيد في كتاب " غريب الحديث " له بإسناده ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16330عبد الرحمن بن أبي ليلى ، (
أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم على رأسه بقرن حين طب ) . قال
أبو عبيد : معنى طب : أي سحر .
وقد أشكل هذا على من قل علمه ، وقال ما للحجامة والسحر ، وما الرابطة بين هذا الداء وهذا الدواء ، ولو وجد هذا القائل
أبقراط أو
nindex.php?page=showalam&ids=13251ابن سينا أو غيرهما قد نص على هذا العلاج ، لتلقاه بالقبول والتسليم ، وقال : قد نص عليه من لا يشك في معرفته وفضله .
فاعلم أن مادة
السحر الذي أصيب به صلى الله عليه وسلم انتهت إلى رأسه إلى إحدى قواه التي فيه بحيث كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله ، وهذا تصرف من الساحر في الطبيعة والمادة الدموية بحيث غلبت تلك المادة على البطن المقدم منه ، فغيرت مزاجه عن طبيعته الأصلية .
والسحر : هو مركب من تأثيرات الأرواح الخبيثة ، وانفعال القوى الطبيعية عنها ، وهو أشد ما يكون من السحر ، ولا سيما في الموضع الذي انتهى السحر إليه ، واستعمال الحجامة على ذلك المكان الذي تضررت أفعاله بالسحر من أنفع المعالجة إذا استعملت على القانون الذي ينبغي .
قال
أبقراط : الأشياء التي ينبغي أن تستفرغ يجب أن تستفرغ من المواضع التي هي إليها أميل بالأشياء التي تصلح لاستفراغها .
وقالت طائفة من الناس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصيب بهذا الداء ، وكان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله ، ظن أن ذلك عن مادة دموية أو غيرها مالت إلى جهة الدماغ ، وغلبت على البطن المقدم منه ، فأزالت مزاجه عن الحالة
[ ص: 116 ] الطبيعية له ، وكان استعمال الحجامة إذ ذاك من أبلغ الأدوية ، وأنفع المعالجة فاحتجم ، وكان ذلك قبل أن يوحى إليه أن ذلك من السحر ، فلما جاءه الوحي من الله تعالى ، وأخبره أنه قد سحر ، عدل إلى العلاج الحقيقي وهو
استخراج السحر وإبطاله ، فسأل الله سبحانه فدله على مكانه ، فاستخرجه ، فقام كأنما أنشط من عقال ، وكان غاية هذا السحر فيه إنما هو في جسده ، وظاهر جوارحه لا على عقله وقلبه ، ولذلك لم يكن يعتقد صحة ما يخيل إليه من إتيان النساء ، بل يعلم أنه خيال لا حقيقة له ، ومثل هذا قد يحدث من بعض الأمراض ، والله أعلم .