فصل في
هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف
لما كسفت الشمس خرج صلى الله عليه وسلم إلى المسجد مسرعا فزعا يجر رداءه ، وكان كسوفها في أول النهار على مقدار رمحين أو ثلاثة من طلوعها فتقدم فصلى ركعتين ، قرأ في الأولى بفاتحة الكتاب ، وسورة طويلة ، جهر بالقراءة ، ثم ركع ،
[ ص: 434 ] فأطال الركوع ، ثم رفع رأسه من الركوع ، فأطال القيام وهو دون القيام الأول ، وقال لما رفع رأسه : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16000688سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد ) ثم أخذ في القراءة ، ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول ، ثم رفع رأسه من الركوع ثم سجد سجدة طويلة فأطال السجود ، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ما فعل في الأولى فكان في كل ركعة ركوعان وسجودان فاستكمل في الركعتين أربع ركعات وأربع سجدات ، ورأى في صلاته تلك الجنة والنار وهم أن يأخذ عنقودا من الجنة فيريهم إياه ، ورأى أهل العذاب في النار فرأى امرأة تخدشها هرة ربطتها حتى ماتت جوعا وعطشا ، ورأى
عمرو بن مالك يجر أمعاءه في النار ، وكان أول من غير دين
إبراهيم ، ورأى فيها سارق الحاج يعذب ثم انصرف فخطب بهم خطبة بليغة ، حفظ منها قوله : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16000689إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا ، يا أمة محمد والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته ، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا )
وقال (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16000690لقد رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم به حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفا من الجنة حين رأيتموني أتقدم ، ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا حين رأيتموني تأخرت )
وفي لفظ (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16000691ورأيت النار فلم أر كاليوم منظرا قط أفظع منها ، ورأيت أكثر أهل النار النساء . قالوا : وبم يا رسول الله ؟ قال بكفرهن . قيل أيكفرن بالله ؟ قال يكفرن العشير ، ويكفرن الإحسان ، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا ، قالت : ما رأيت منك خيرا قط )
ومنها : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16000692ولقد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور مثل ، أو قريبا من فتنة الدجال ، يؤتى أحدكم فيقال له : ما علمك بهذا الرجل ؟ فأما المؤمن أو قال الموقن فيقول : محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وآمنا واتبعنا ، فيقال له : نم صالحا فقد علمنا إن كنت لمؤمنا ، وأما المنافق ، أو قال : [ ص: 435 ] المرتاب ، فيقول : لا أدري ، سمعت الناس يقولون شيئا ، فقلته ) .
وفي طريق أخرى
nindex.php?page=showalam&ids=12251لأحمد بن حنبل ، رحمه الله ، أنه صلى الله عليه وسلم لما سلم ، حمد الله وأثنى عليه وشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله ، ثم قال : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16000693أيها الناس ، أنشدكم بالله هل تعلمون أني قصرت في شيء من تبليغ رسالات ربي لما أخبرتموني بذلك ؟ فقام رجل ، فقال : نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك ، ونصحت لأمتك وقضيت الذي عليك . ثم قال : أما بعد فإن رجالا يزعمون أن كسوف هذه الشمس وكسوف هذا القمر ، وزوال هذه النجوم عن مطالعها لموت رجال عظماء من أهل الأرض ، وإنهم قد كذبوا ، ولكنها آيات من آيات الله تبارك وتعالى يعتبر بها عباده فينظر من يحدث منهم توبة ، وايم الله لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقوه من أمر دنياكم وآخرتكم ، وإنه - والله أعلم - لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا آخرهم الأعور الدجال ممسوح العين اليسرى كأنها عين أبي يحيى لشيخ حينئذ من الأنصار ، بينه وبين حجرة nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة ، وإنه متى يخرج ، فسوف يزعم أنه الله ، فمن آمن به وصدقه واتبعه لم ينفعه صالح من عمله سلف ، ومن كفر به وكذبه لم يعاقب بشيء من عمله سلف ، وإنه سيظهر على الأرض كلها إلا الحرم ، وبيت المقدس ، وإنه يحصر المؤمنين في بيت [ ص: 436 ] المقدس فيزلزلون زلزالا شديدا ، ثم يهلكه الله عز وجل وجنوده ، حتى إن جذم الحائط أو قال أصل الحائط ، وأصل الشجرة لينادي : يا مسلم يا مؤمن هذا يهودي ، أو قال : هذا كافر فتعال فاقتله ، قال : ولن يكون ذلك حتى تروا أمورا يتفاقم بينكم شأنها في أنفسكم وتساءلون بينكم هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكرا : وحتى تزول جبال عن مراتبها ، ثم على أثر ذلك القبض ) .
فهذا الذي صح عنه صلى الله عليه وسلم من
صفة صلاة الكسوف وخطبتها . وقد روي عنه أنه صلاها على صفات أخر .
منها : ( كل ركعة بثلاث ركوعات ).
ومنها: ( كل ركعة بأربع ركوعات ) .
ومنها : إنها كإحدى صلاة صليت كل ركعة بركوع واحد ، ولكن كبار الأئمة لا يصححون ذلك ،
nindex.php?page=showalam&ids=12251كالإمام أحمد ،
nindex.php?page=showalam&ids=12070والبخاري ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ، ويرونه غلطا .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وقد سأله سائل ، فقال : روى بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بثلاث ركعات في كل ركعة ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : فقلت له أتقول به أنت ؟ قال لا ولكن لم لم تقل به أنت وهو زيادة على حديثكم ؟ يعني حديث الركوعين في الركعة ، فقلت : هو من وجه منقطع ونحن لا نثبت المنقطع على الانفراد ، ووجه نراه - والله أعلم - غلطا ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي : أراد بالمنقطع قول
nindex.php?page=showalam&ids=16531عبيد بن عمير : حدثني من أصدق ، قال
عطاء : حسبته يريد
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة . . . الحديث ، وفيه فركع في
[ ص: 437 ] كل ركعة ثلاث ركوعات وأربع سجدات .
وقال
قتادة : عن
عطاء ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16531عبيد بن عمير عنها : ست ركعات في أربع سجدات . فعطاء إنما أسنده عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة بالظن والحسبان لا باليقين ، وكيف يكون ذلك محفوظا عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة وقد ثبت عن
عروة ،
وعمرة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة خلافه
وعروة ،
وعمرة أخص
nindex.php?page=showalam&ids=25بعائشة وألزم لها من
nindex.php?page=showalam&ids=16531عبيد بن عمير وهما اثنان ، فروايتهما أولى أن تكون هي المحفوظة .
قال : وأما الذي يراه
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي غلطا فأحسبه حديث
عطاء عن
جابر : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16000694انكسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الناس إنما انكسفت الشمس لموت إبراهيم ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس ست ركعات في أربع سجدات ) ، الحديث .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي : من نظر في قصة هذا الحديث وقصة حديث
أبي الزبير علم أنهما قصة واحدة ، وأن الصلاة التي أخبر عنها إنما فعلها مرة واحدة وذلك في يوم توفي ابنه
إبراهيم عليه السلام .
قال : ثم وقع الخلاف بين
nindex.php?page=showalam&ids=16486عبد الملك ، يعني ابن أبي سليمان ، عن
عطاء ، عن
جابر ، وبين
nindex.php?page=showalam&ids=17235هشام الدستوائي ، عن
أبي الزبير ، عن
جابر في عدد الركوع في كل ركعة ، فوجدنا رواية
هشام أولى ، يعني أن في كل ركعة ركوعين فقط لكونه مع
أبي الزبير أحفظ من
عبد الملك ، ولموافقة روايته في عدد الركوع رواية
عمرة ،
وعروة عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة ، ورواية
nindex.php?page=showalam&ids=347كثير بن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=16572وعطاء بن يسار عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، ورواية
أبي سلمة عن
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو ، ثم رواية
nindex.php?page=showalam&ids=14681يحيى بن سليم وغيره ، وقد خولف
عبد الملك في روايته عن
عطاء فرواه
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ،
وقتادة ، عن
عطاء ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16531عبيد بن عمير : ست ركعات في أربع سجدات ، فرواية
هشام عن
أبي الزبير عن
جابر التي لم يقع فيها الخلاف ويوافقها عدد كثير أولى من روايتي
عطاء اللتين إنما
[ ص: 438 ] إسناد أحدهما بالتوهم ، والأخرى يتفرد بها عنه
nindex.php?page=showalam&ids=16486عبد الملك بن أبي سليمان الذي قد أخذ عليه الغلط في غير حديث .
قال : وأما حديث
nindex.php?page=showalam&ids=15683حبيب بن أبي ثابت ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16248طاووس ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16000695صلى في كسوف ، فقرأ ، ثم ركع ، ثم قرأ ، ثم ركع ، ثم قرأ ، ثم ركع ، ثم قرأ ، ثم ركع ، ثم سجد ) قال : والأخرى مثلها ، فرواه
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم في " صحيحه " وهو مما تفرد به
nindex.php?page=showalam&ids=15683حبيب بن أبي ثابت ،
وحبيب وإن كان ثقة ، فكان يدلس ولم يبين فيه سماعه من
nindex.php?page=showalam&ids=16248طاووس فيشبه أن يكون حمله عن غير موثوق به ، وقد خالفه في رفعه ومتنه
سليمان المكي الأحول ، فرواه عن
nindex.php?page=showalam&ids=16248طاووس ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس من فعله ثلاث ركعات في ركعة .
وقد خولف
سليمان أيضا في عدد الركوع فرواه جماعة عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس من فعله ، كما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=16572عطاء بن يسار وغيره عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني في كل ركعة ركوعان .
قال : وقد أعرض
nindex.php?page=showalam&ids=12070محمد بن إسماعيل البخاري عن هذه الروايات الثلاث فلم يخرج شيئا منها في " الصحيح " لمخالفتهن ما هو أصح إسنادا وأكثر عددا وأوثق رجالا ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في رواية
nindex.php?page=showalam&ids=13948أبي عيسى الترمذي عنه : أصح الروايات عندي في صلاة الكسوف أربع ركعات في أربع سجدات .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي : وروي عن
حذيفة مرفوعا (
أربع ركعات في كل ركعة ) وإسناده ضعيف .
وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب مرفوعا (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16000697خمس ركوعات في كل ركعة ) . وصاحبا الصحيح لم يحتجا بمثل إسناد حديثه .
قال :وذهب جماعة من أهل الحديث إلى تصحيح الروايات في عدد
[ ص: 439 ] الركعات ، وحملوها على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها مرارا ، وأن الجميع جائز ، فممن ذهب إليه
nindex.php?page=showalam&ids=12418إسحاق بن راهويه ،
nindex.php?page=showalam&ids=13114ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ،
وأبو بكر بن إسحاق الضبعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=14228وأبو سليمان الخطابي ، واستحسنه
ابن المنذر .
والذي ذهب إليه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي من ترجيح الأخبار أولى لما ذكرنا من رجوع الأخبار إلى حكاية صلاته صلى الله عليه وسلم يوم توفي ابنه .
قلت : والمنصوص عن
أحمد أيضا أخذه بحديث
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة وحده في كل ركعة ركوعان وسجودان .
قال في رواية
المروزي : وأذهب إلى أن صلاة الكسوف أربع ركعات وأربع سجدات في كل ركعة ركعتان وسجدتان ، وأذهب إلى حديث
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة ، أكثر الأحاديث على هذا . وهذا اختيار
أبي بكر ، وقدماء الأصحاب ، وهو اختيار شيخنا
أبي العباس ابن تيمية . وكان يضعف كل ما خالفه من الأحاديث ، ويقول : هي غلط ، وإنما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الكسوف مرة واحدة يوم مات ابنه
إبراهيم . والله أعلم .
وأمر صلى الله عليه وسلم في الكسوف بذكر الله ، والصلاة ، والدعاء ، والاستغفار ، والصدقة ، والعتاقة والله أعلم .