بيان
سكرة الموت والاعتبار بالجنائز وزيارة القبور :
اعلم أنه لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها لكان جديرا بأن يتنغص عليه عيشه ويتكدر عليه سروره ويفارقه سهوه وغفلته ، وحقيقا بأن يطول فيه فكره ويعظم له استعداده ، لا سيما وهو في كل نفس بصدده كما قال بعض الحكماء : " كرب بيد سواك لا تدري متى يغشاك " .
واعلم أن الجنائز عبرة للبصير ، وفيها تنبيه وتذكير لا لأهل الغفلة ، فإنها لا تزيدهم مشاهدتها إلا قسوة ؛ لأنهم يظنون أنهم أبدا إلى جنازة غيرهم ينظرون ، ولا يحسبون أنهم لا محالة على الجنائز يحملون ، أو يحسبون ذلك ولكنهم على القرب لا يقدرون ولا يتفكرون أن المحمولين على الجنائز هكذا يحسبون ، فبطل حسبانهم ، وانقرض على القرب زمانهم . فلا ينظر عبد إلى جنازة إلا ويقدر نفسه محمولا عليها ، فإنه محمول عليها على القرب وكأن قد ، ولعله في غد أو بعد غد ، قال "
nindex.php?page=showalam&ids=15603ثابت البناني " : " كنا نشهد الجنائز فلا نرى إلا متقنعا باكيا ، فهكذا كان خوفهم من الموت ، والآن لا ننظر إلى جماعة يحضرون جنازة إلا وأكثرهم يضحكون ويلهون ولا يتكلمون إلا في ميراثه وما خلفه لورثته ، ولا يتفكر أقرانه وأقاربه إلا في الحيلة التي بها يتناول بعض ما خلفه ، ولا يتفكر واحد منهم إلى ما شاء الله في جنازة نفسه في حاله إذا حمل عليها . ولا سبب لهذه الغفلة إلا قسوة القلوب بكثرة المعاصي والذنوب حتى نسينا الله تعالى واليوم الآخر والأهوال التي بين أيدينا ، فصرنا نلهو ونغفل ونشتغل بما لا يغنينا .
فنسأل الله تعالى اليقظة من هذه الغفلة .
فمن
آداب حضور الجنازة : التفكر والتنبه والاستعداد والمشي أمامها على هيئة التواضع ، ومن آدابه حسن الظن بالميت وإن كان فاسقا ، وإساءة الظن بالنفس وإن كان ظاهرها الصلاح ، فإن الخاتمة مخطرة لا يدرى حقيقتها .
[ ص: 324 ] وأما
زيارة القبور : فهي مستحبة على الجملة للتذكر والاعتبار ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور ثم أذن في ذلك بعد . وأما النساء فلا يفي خير زيارتهن بشرها ، لأنهن يكثرن الهجر على رؤوس المقابر ، ولا يخلون في الطريق عن تكشف وتبرج وهذه عظائم ، والزيارة سنة فكيف يحتمل ذلك لأجلها ; نعم لا بأس بخروج المرأة في ثياب بذلة ترد أعين الرجال عنها ، وذلك بشرط الاقتصار على الدعاء وترك الحديث على رأس القبر .
والمستحب في زيارة القبور أن يقف مستدبر القبلة مستقبلا لوجه الميت ، وأن يسلم ولا يمسح القبر ولا يمسه ولا يقبله ، فإن ذلك من عادة النصارى . قال "
نافع " : " كان "
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر " رأيته مائة مرة أو أكثر يجيء إلى القبر فيقول : السلام على النبي . السلام على
أبي بكر . السلام على أبي وينصرف . وكان بعض السلف إذا وقف على باب المقابر يقول : " آنس الله وحشتكم ، ورحم غربتكم ، وتجاوز عن سيئاتكم ، وقبل الله حسناتكم " . فالمقصود من زيارة القبور للزائر الاعتبار بها ، وللمزور الانتفاع بدعائه ، فلا ينبغي أن يغفل الزائر عن الدعاء لنفسه وللميت ولا عن الاعتبار به ، وإنما يحصل له الاعتبار به بأن يتصور في قلبه الميت كيف تفرقت أجزاؤه ، وكيف يبعث من قبره ، وأنه على القرب سيلحق به . ويستحب الثناء على الميت وأن لا يذكر إلا بالجميل قال صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004712لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا " .