صفحة جزء
40 - المصابيح في صلاة التراويح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى . وبعد ، فقد سئلت مرات : هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم التراويح وهي العشرون ركعة المعهودة الآن ؟ وأنا أجيب بلا ، ولا يقنع مني بذلك ، فأردت تحرير القول فيها ، فأقول : الذي وردت به الأحاديث الصحيحة والحسان والضعيفة الأمر بقيام رمضان ، والترغيب فيه من غير تخصيص بعدد ، ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى عشرين ركعة ، وإنما صلى ليالي صلاة لم يذكر عددها ثم تأخر في الليلة الرابعة ; خشية أن تفرض عليهم فيعجزوا عنها ، وقد تمسك بعض من أثبت ذلك بحديث ورد فيه ، لا يصلح الاحتجاج به ، وأنا أورده وأبين وهاءه ، ثم أبين ما ثبت بخلافه . روى ابن أبي شيبة في مسنده قال : حدثنا يزيد ، أنا إبراهيم بن عثمان ، عن الحكم بن مقسم ، عن ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر " أخرجه عبد بن حميد في مسنده : ثنا أبو نعيم ، ثنا أبو شيبة - يعني إبراهيم بن عثمان - به ، وأخرجه البغوي في معجمه : ثنا منصور بن أبي مزاحم ، ثنا أبو شيبة به ، وأخرجه الطبراني ، أي من طريق أبي شيبة أيضا , قلت : هذا الحديث ضعيف جدا لا تقوم به حجة ، قال الذهبي في الميزان : إبراهيم بن عثمان أبو شيبة الكوفي قاضي واسط يروي عن زوج أمه الحكم بن عيينة ، كذبه شعبة ، وقال ابن معين : ليس بثقة ، وقال أحمد بن حنبل : ضعيف ، وقال البخاري : سكتوا عنه ، [ ص: 414 ] وهي من صيغ التجريح ، وقال النسائي : متروك الحديث ، قال الذهبي : ومن مناكيره ما رواه عن الحكم بن مقسم ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان في غير جماعة عشرين ركعة والوتر ، قال : وقد ورد له عن الحكم عدة أحاديث ، مع أنه روي عنه أنه قال : ما سمعت من الحكم إلا حديثا واحدا ، قال : وهو الذي روى حديث : ما هلكت أمة إلا في آدار ، ولا تقوم الساعة إلا في آدار . وهو حديث باطل لا أصل له . انتهى كلام الذهبي . وقال المزني في تهذيبه : أبو شيبة إبراهيم بن عثمان له مناكير ، منها حديث أنه كان يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر ، قال : وقد ضعفه أحمد وابن معين والبخاري والنسائي وأبو حاتم الرازي وابن عدي وأبو داود والترمذي والأحوص بن المفضل الغلابي ، وقال الترمذي فيه : منكر الحديث ، وقال الجوزجاني : ساقط ، وقال أبو علي النيسابوري : ليس بالقوي ، وقال صالح بن محمد البغدادي : ضعيف ، لا يكتب حديثه ، وقال معاذ العنبري : كتبت إلى شعبة أسأله عنه : أروي عنه ؟ قال : لا ترو عنه ; فإنه رجل مذموم . انتهى . ومن اتفق هؤلاء الأئمة على تضعيفه لا يحل الاحتجاج بحديثه ، مع أن هذين الإمامين المطلعين الحافظين المستوعبين حكيا فيه ما حكيا ولم ينقلا عن أحد أنه وثقه ولا بأدنى مراتب التعديل ، وقد قال الذهبي ، وهو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال : لم يتفق اثنان من أهل الفن على تجريح ثقة ولا توثيق ضعيف ، ومن يكذبه مثل شعبة فلا يلتفت إلى حديثه ، مع تصريح الحافظين المذكورين نقلا عن الحفاظ بأن هذا الحديث مما أنكر عليه ، وفي ذلك كفاية في رده ، وهذا أحد الوجوه المردود بها .

والوجه الثاني : أنه قد ثبت في صحيح البخاري وغيره أن عائشة سئلت عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ، فقالت : ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة .

الثالث : أنه قد ثبت في صحيح البخاري عن عمر أنه قال في التراويح : نعمت البدعة هذه ، والتي ينامون عنها أفضل ، فسماها بدعة ، يعني بدعة حسنة ، وذلك صريح في أنها لم تكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد نص على ذلك الإمام الشافعي وصرح به جماعات من الأئمة ، منهم الشيخ عز الدين بن عبد السلام ، حيث قسم البدعة إلى خمسة أقسام وقال : ومثال المندوبة صلاة التراويح ، ونقله عنه النووي في تهذيب الأسماء واللغات ، ثم قال : وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي عن الشافعي قال : المحدثات في الأمور ضربان : أحدهما ما أحدث مما خالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا [ ص: 415 ] فهذه البدعة الضلالة . والثاني ما أحدث من الخير ، وهذه محدثة غير مذمومة ، وقد قال عمر في قيام شهر رمضان : نعمت البدعة هذه ، يعني أنها محدثة لم تكن - هذا آخر كلام الشافعي .

وفي سنن البيهقي وغيره بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد الصحابي قال : كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب في شهر رمضان بعشرين ركعة ، ولو كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لذكره ; فإنه أولى بالإسناد وأقوى في الاحتجاج . الرابع : أن العلماء اختلفوا في عددها ، ولو ثبت ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يختلف فيه كعدد الوتر والرواتب ، فروي عن الأسود بن يزيد أنه كان يصليها أربعين ركعة غير الوتر ، وعن مالك : التراويح ست وثلاثون ركعة غير الوتر ; لقول نافع : أدركت الناس وهم يقومون رمضان بتسع وثلاثين ركعة ، يوترون منها بثلاث . الخامس : أنها تستحب لأهل المدينة ستا وثلاثين ركعة تشبيها بأهل مكة ، حيث كانوا يطوفون بين كل ترويحتين طوافا ويصلون ركعتيه ولا يطوفون بعد الخامسة ، فأراد أهل المدينة مساواتهم فجعلوا مكان كل طواف أربع ركعات ، ولو ثبت عددها بالنص لم تجز الزيادة عليه ، ولأهل المدينة والصدر الأول كانوا أورع من ذلك ، ومن طالع كتب المذهب ، خصوصا شرح المهذب ، ورأى تصرفه وتعليله في مسائلها ، كقراءتها ووقتها وسن الجماعة فيها بفعل الصحابة وإجماعهم ، علم علم اليقين أنه لو كان فيها خبر مرفوع لاحتج به . هذا جوابي في ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

ثم رأيت في تخريج أحاديث الشرح الكبير لشيخ الإسلام ابن حجر ما نصه : قول الرافعي : إنه صلى الله عليه وسلم صلى بالناس عشرين ركعة ليلتين ، فلما كان في الليلة الثالثة اجتمع الناس فلم يخرج إليهم ثم قال من الغد : " خشيت أن تفرض عليكم فلا تطيقوها " متفق على صحته من حديث عائشة ، دون عدد الركعات ، زاد البخاري : فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك . قال شيخ الإسلام : وأما العدد فروى ابن حبان في صحيحه من حديث جابر أنه صلى بهم ثمان ركعات ثم أوتر . فهذا مباين لما ذكره الرافعي قال : نعم ذكر العشرين ورد في حديث آخر رواه البيهقي من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في رمضان في غير جماعة عشرين ركعة والوتر ، زاد سليم الرازي في كتاب الترغيب : ويوتر بثلاث ، قال البيهقي : تفرد به أبو شيبة إبراهيم بن عثمان ، وهو ضعيف ، وفي الموطأ وابن أبي شيبة والبيهقي عن عمر أنه جمع الناس على أبي بن كعب ، فكان يصلي بهم في شهر رمضان عشرين ركعة - الحديث . انتهى . فالحاصل أن العشرين [ ص: 416 ] [ركعة] لم تثبت من فعله صلى الله عليه وسلم ، وما نقله عن صحيح ابن حبان غاية فيما ذهبنا إليه من تمسكنا بما في البخاري عن عائشة أنه كان لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ; فإنه موافق له من حيث إنه صلى التراويح ثمانيا ثم أوتر بثلاث ، فتلك إحدى عشرة . ومما يدل لذلك أيضا أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا عمل عملا واظب عليه ، كما واظب على الركعتين اللتين قضاهما بعد العصر مع كون الصلاة في ذلك الوقت منهيا عنها ، ولو فعل العشرين ولو مرة لم يتركها أبدا ، ولو وقع ذلك لم يخف على عائشة حيث قالت ما تقدم ، والله أعلم .

وفي الأوائل للعسكري : أول من سن قيام رمضان عمر سنة أربع عشرة ، وأخرج البيهقي وغيره من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال : إن عمر بن الخطاب أول من جمع الناس على قيام شهر رمضان ، الرجال على أبي بن كعب ، والنساء على سليمان بن أبي حثمة . وأخرج ابن سعد عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة نحوه ، وزاد : فلما كان عثمان بن عفان جمع الرجال والنساء على إمام واحد : سليمان بن أبي حثمة . وقال سعيد بن منصور في سننه : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، حدثني محمد بن يوسف : سمعت السائب بن يزيد يقول : كنا نقوم في زمان عمر بن الخطاب بإحدى عشرة ركعة نقرأ فيها بالمئين ، ونعتمد على العصي من طول القيام ، وننقلب عند بزوغ الفجر . فهذا أيضا موافق لحديث عائشة . وكان عمر لما أمر بالتراويح اقتصر أولا على العدد الذي صلاه النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم زاد في آخر الأمر . وقال سعيد أيضا : حدثنا هشيم ، ثنا زكريا بن أبي مريم الخزاعي : سمعت أبا أمامة يحدث قال : إن الله كتب عليكم صيام رمضان ولم يكتب عليكم قيامه ، وإنما القيام شيء ابتدعتموه فدوموا عليه ولا تتركوه ; فإن ناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعة ابتغاء رضوان الله فعاتبهم الله بتركها ، ثم تلا : ( ورهبانية ابتدعوها ) الآية . وأخرج أحمد بسند حسن عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان ، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع الناس على القيام . وقال الأذرعي في التوسط : وأما من نقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى في الليلتين اللتين خرج فيهما عشرين ركعة ، فهو منكر ، وقال الزركشي في الخادم : دعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم في تلك الليلة عشرين ركعة لم يصح ، بل الثابت في الصحيح الصلاة من غير ذكر العدد ، وجاء في رواية جابر أنه صلى [ ص: 417 ] بهم ثمان ركعات والوتر ، ثم انتظروه في القابلة فلم يخرج إليهم . رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما . وقال السبكي في شرح المنهاج : اعلم أنه لم ينقل كم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليالي ، هل هو عشرون أو أقل ، قال : ومذهبنا أن التراويح عشرون ركعة ; لما روى البيهقي وغيره بالإسناد الصحيح عن السائب بن يزيد الصحابي رضي الله عنه قال : كنا نقوم على عهد عمر رضي الله عنه بعشرين ركعة والوتر ، هكذا ذكره المصنف واستدل به ، ورأيت إسناده في البيهقي ، لكن في الموطأ وفي مصنف سعيد بن منصور بسند في غاية الصحة عن السائب بن يزيد : إحدى عشرة ركعة . وقال الجوري من أصحابنا : عن مالك أنه قال : الذي جمع عليه الناس عمر بن الخطاب أحب إلي ، وهو إحدى عشرة ركعة ، وهي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قيل له : إحدى عشرة ركعة بالوتر ؟ قال : نعم وثلاث عشرة قريب ، قال : ولا أدري من أين أحدث هذا الركوع الكثير ؟ وقال الجوري : إن عدد الركعات في شهر رمضان لا حد له عند الشافعي ; لأنه نافلة ، ورأيت في كتاب سعيد بن منصور آثارا في صلاة عشرين ركعة وست وثلاثين ركعة ، لكنها بعد زمان عمر بن الخطاب ، ومال ابن عبد البر إلى رواية ثلاث وعشرين بالوتر ، وأن رواية مالك في إحدى عشرة وهم ، وقال : إن غير مالك يخالفه ويقول : إحدى وعشرين ، قال : ولا أعلم أحدا قال في هذا الحديث : إحدى عشرة ركعة ، غير مالك ، وكأنه لم يقف على مصنف سعيد بن منصور في ذلك فإنه رواها كما رواها مالك عن عبد العزيز بن محمد ، عن محمد بن يوسف شيخ مالك ، فقد تضافر مالك وعبد العزيز الدراوردي على روايتها ، إلا أن هذا أمر يسهل الخلاف فيه ; فإن ذلك من النوافل ؛ من شاء أقل ومن شاء أكثر ، ولعلهم في وقت اختاروا تطويل القيام على عدد الركعات فجعلوها إحدى عشرة ، وفي وقت اختاروا عدد الركعات فجعلوها عشرين ، وقد استقر العمل على هذا . انتهى كلام السبكي .

التالي السابق


الخدمات العلمية