ثم قال تعالى : (
فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) واعلم أن هذا هو القسم الثالث من البياعات المذكورة في الآية ، وهو
بيع الأمانة ، أعني ما لا يكون فيه كتابة ولا شهود ولا يكون فيه رهن ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أمن فلان غيره إذا لم يكن خائفا منه ، قال تعالى : (
هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه ) [ يوسف : 64] فقوله (
فإن أمن بعضكم بعضا ) أي لم يخف خيانته وجحوده (
فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) أي فليؤد المديون الذي كان أمينا ومؤتمنا في ظن الدائن ، فلا يخلف ظنه في أداء أمانته وحقه إليه ، يقال : أمنته وائتمنته فهو مأمون ومؤتمن .
ثم قال : (
وليتق الله ربه ) أي هذا
المديون يجب أن يتقي الله ولا يجحد ، لأن الدائن لما عامله المعاملة الحسنة حيث عول على أمانته ولم يطالبه بالوثائق من الكتابة والإشهاد والرهن فينبغي لهذا المديون أن يتقي الله ويعامله بالمعاملة الحسنة في أن لا ينكر ذلك الحق ، وفي أن يؤديه إليه عند حلول الأجل ، وفي الآية قول آخر ، وهو أنه خطاب للمرتهن بأن يؤدي الرهن عند استيفاء المال فإنه أمانة في يده ، والوجه هو الأول .
المسألة الثانية : من الناس من قال : هذه الآية ناسخة للآيات المتقدمة الدالة على وجوب الكتابة والإشهاد وأخذ الرهن ، واعلم أن التزام وقوع النسخ من غير دليل يلجئ إليه خطأ ، بل تلك الأوامر محمولة على الإرشاد ورعاية الاحتياط ، وهذه الآية محمولة على الرخصة ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ليس في آية المداينة نسخ ، ثم قال : (
ولا تكتموا الشهادة ) وفي التأويل وجوه :
الوجه الأول : قال
القفال رحمه الله : إنه تعالى لما أباح
ترك الكتابة والإشهاد والرهن عند اعتقاد كون المديون أمينا ، ثم كان من الجائز في هذا المديون أن يخلف هذا الظن ، وأن يخرج خائنا جاحدا للحق ، إلا أنه من الجائز أن يكون بعض الناس مطلعا على أحوالهم ، فههنا ندب الله تعالى ذلك الإنسان إلى أن يسعى في إحياء ذلك الحق ، وأن يشهد لصاحب الحق بحقه ، ومنعه من كتمان تلك الشهادة سواء عرف صاحب الحق تلك الشهادة أو لم يعرف وشدد فيه بأن جعله آثم القلب لو تركها ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر يدل على صحة هذا التأويل ، وهو قوله "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012043خير الشهود من شهد قبل أن يستشهد " .
الوجه الثاني : في تأويل أن يكون المراد من كتمان الشهادة أن ينكر العلم بتلك الواقعة ، ونظيره قوله تعالى : (
أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ) [ البقرة : 140 ] والمراد الجحود وإنكار العلم .
الوجه الثالث : في
كتمان الشهادة والامتناع من أدائها عند الحاجة إلى إقامتها ، وقد تقدم ذلك في قوله
[ ص: 107 ] (
ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ) [ البقرة : 282 ] وذلك لأنه متى امتنع عن إقامة الشهادة فقد بطل حقه ، وكان هو بالامتناع من الشهادة كالمبطل لحقه ، وحرمة مال المسلم كحرمة دمه ، فهذا بالغ في الوعيد .