[ ص: 111 ] (
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير )
قوله تعالى : (
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير )
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في كيفية النظم وجوه :
الأول : وهو أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة كمال الملك ، وكمال العلم ، وكمال القدرة لله تعالى ، وذلك يوجب كمال صفات الربوبية أتبع ذلك بأن بين كون المؤمنين في نهاية الانقياد والطاعة والخضوع لله تعالى ، وذلك هو كمال العبودية ، وإذا ظهر لنا كمال الربوبية ، وقد ظهر منا كمال العبودية ، فالمرجو من عميم فضله وإحسانه أن يظهر يوم القيامة في حقنا كمال العناية والرحمة والإحسان اللهم حقق هذا الأمل .
الوجه الثاني في النظم : أنه تعالى لما قال : (
وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) بين أنه لا يخفى عليه من سرنا وجهرنا وباطننا وظاهرنا شيء البتة ، ثم إنه تعالى ذكر عقيب ذلك ما يجري مجرى المدح لنا والثناء علينا ، فقال : (
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل ) كأنه بفضله يقول عبدي أنا وإن كنت أعلم جميع أحوالك ، فلا أظهر من أحوالك ، ولا أذكر منها إلا ما يكون مدحا لك وثناء عليك ، حتى تعلم أني كما أنا الكامل في الملك والعلم والقدرة ، فأنا الكامل في الجود والرحمة ، وفي إظهار الحسنات ، وفي الستر على السيئات .
الوجه الثالث : أنه بدأ في السورة بمدح المتقين الذين يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ، وبين في آخر السورة أن الذين مدحهم في أول السورة هم أمة
محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : (
والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ) وهذا هو المراد بقوله في أول السورة (
الذين يؤمنون بالغيب ) [ البقرة : 3 ].
ثم قال ههنا (
وقالوا سمعنا وأطعنا ) وهو المراد بقوله في أول السورة (
ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) [ البقرة : 3 ].
ثم قال ههنا (
غفرانك ربنا وإليك المصير ) وهو المراد بقوله في أول السورة (
وبالآخرة هم يوقنون ) [ البقرة : 4 ] ثم حكى عنهم ههنا كيفية تضرعهم إلى ربهم في قولهم (
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) [ البقرة : 286 ] إلى آخر السورة وهو المراد بقوله في أول السورة (
أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ) [ البقرة : 5 ] فانظر كيف حصلت الموافقة بين أول السورة وآخرها .
والوجه الرابع : وهو أن الرسول إذا جاءه الملك من عند الله ، وقال له : إن الله بعثك رسولا إلى الخلق ، فههنا الرسول لا يمكنه أن يعرف صدق ذلك الملك إلا بمعجزة يظهرها الله تعالى على صدق ذلك الملك في
[ ص: 112 ] دعواه ولولا ذلك المعجز لجوز الرسول أن يكون ذلك المخبر شيطانا ضالا مضلا ، وذلك الملك أيضا إذا سمع كلام الله تعالى افتقر إلى معجز يدل على أن المسموع هو كلام الله تعالى لا غير ، وهذه المراتب معتبرة ، أولها : قيام المعجز على أن المسموع كلام الله لا غيره ، فيعرف الملك بواسطة ذلك المعجز أنه سمع كلام الله تعالى . وثانيها : قيام المعجزة عند النبي صلى الله عليه وسلم على أن ذلك الملك صادق في دعواه ، وأنه ملك بعثه الله تعالى وليس بشيطان . وثالثها : أن تقوم المعجزة على يد الرسول عند الأمة حتى تستدل الأمة بها على أن الرسول صادق في دعواه ، فإذن لما لم يعرف الرسول كونه رسولا من عند الله لا تتمكن الأمة من أن يعرفوا ذلك ، فلما ذكر الله تعالى في هذه السورة أنواع الشرائع وأقسام الأحكام ، قال : (
آمن الرسول ) فبين أن الرسول عرف أن ذلك وحي من الله تعالى وصف إليه ، وأن الذي أخبره بذلك ملك مبعوث من قبل الله تعالى معصوم من التحريف ، وليس بشيطان مضل ، ثم ذكر إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك ، وهو المرتبة المتقدمة ، وذكر عقيبه إيمان المؤمنين بذلك وهو المرتبة المتأخرة ، فقال : (
والمؤمنون كل آمن بالله ) ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن
القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه ، فهو أيضا معجز بحسب ترتيبه ونظم آياته ، ولعل الذين قالوا : إنه معجز بحسب أسلوبه أرادوا ذلك إلا أني رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه اللطائف غير متنبهين لهذه الأمور ، وليس الأمر في هذا الباب كما قيل :
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا ، ويعلمنا ما ينفعنا به بفضله ورحمته .