(
فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين )
قوله تعالى : (
فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين )
اعلم أنه تعالى لما ذكر (
إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ) بين بعد ذلك مفصلا ما
[ ص: 64 ] في ذلك الاختلاف ، أما الاختلاف فهو أن كفر قوم وآمن آخرون ، وأما الحكم فيمن كفر فهو أن يعذبه عذابا شديدا في الدنيا والآخرة ، وأما الحكم فيمن آمن وعمل الصالحات ، فهو أن يوفيهم أجورهم ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أما
عذاب الكافر في الدنيا فهو من وجهين :
أحدهما : القتل والسبي وما شاكله ، حتى لو ترك الكفر لم يحسن إيقاعه به ، فذلك داخل في عذاب الدنيا .
والثاني :
ما يلحق الكافر من الأمراض والمصائب ، وقد اختلفوا في أن ذلك هل هو عقاب أم لا ؟ قال بعضهم : إنه عقاب في حق الكافر ، وإذا وقع مثله للمؤمن فإنه لا يكون عقابا بل يكون ابتلاء وامتحانا ، وقال
الحسن : إن مثل هذا إذا وقع للكافر لا يكون عقابا بل يكون أيضا ابتلاء وامتحانا ، ويكون جاريا مجرى الحدود التي تقام على التائب ، فإنها لا تكون عقابا بل امتحانا ، والدليل عليه أنه تعالى يعد الكل بالصبر عليها والرضا بها والتسليم لها وما هذا حاله لا يكون عقابا .
فإن قيل : فقد سلمتم في الوجه الأول أنه عذاب للكافر على كفره ، وهذا على خلاف قوله تعالى : (
ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ) [ النحل : 61 ] ، وكلمة " لو " تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فوجب أن لا توجد المؤاخذة في الدنيا ، وأيضا قال تعالى : (
اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ) [ غافر : 17 ] وذلك يقتضي حصول المجازاة في ذلك اليوم ، لا في الدنيا ، قلنا : الآية الدالة على حصول العقاب في الدنيا خاصة ، والآيات التي ذكرتموها عامة ، والخاص مقدم على العام .
المسألة الثانية : لقائل أن يقول : وصف العذاب بالشدة يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد ، ولسنا نجد الأمر كذلك ، فإن الأمر تارة يكون على الكفار وأخرى على المسلمين ، ولا نجد بين الناس تفاوتا .
قلنا : بل التفاوت موجود في الدنيا ؛ لأن الآية في بيان أمر
اليهود الذين كذبوا
بعيسى عليه السلام ، ونرى الذلة والمسكنة لازمة لهم ، فزال الإشكال .
المسألة الثالثة : وصف تعالى هذا العذاب بأنه ليس لهم من ينصرهم ويدفع ذلك العذاب عنهم .
فإن قيل : أليس قد يمتنع على الأئمة والمؤمنين قتل الكفار بسبب العهد وعقد الذمة ؟
قلنا : المانع هو العهد ، ولذلك إذا زال العهد حل قتله .