(
إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم )
قوله تعالى : (
إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم )
اعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوها :
الأول : أنه تعالى لما وصف
اليهود بالخيانة في أموال الناس ، ثم من المعلوم أن
الخيانة في أموال الناس لا تتمشى إلا بالأيمان الكاذبة لا جرم ذكر عقيب تلك الآية هذه الآية المشتملة على وعيد من يقدم على الأيمان الكاذبة .
الثاني : أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم (
ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) [ آل عمران : 75 ] ، ولا شك أن عهد الله على كل مكلف أن لا يكذب على الله ولا يخون في دينه ، لا جرم ذكر هذا الوعيد عقيب ذلك .
الثالث : أنه تعالى ذكر في الآية السابقة خيانتهم في أموال الناس ، ثم ذكر في هذه الآية
خيانتهم في عهد الله وخيانتهم في تعظيم أسمائه حين يحلفون بها كذبا ، ومن الناس من
[ ص: 92 ] قال : هذه الآية ابتداء كلام مستقل بنفسه في المنع عن الأيمان الكاذبة ؛ وذلك لأن اللفظ عام والروايات الكثيرة دلت على أنها إنما نزلت في أقوام أقدموا على
الأيمان الكاذبة ، وإذا كان كذلك وجب اعتقاد كون هذا الوعيد عاما في حق كل من يفعل هذا الفعل وأنه غير مخصوص
باليهود .
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اختلفت الروايات في سبب النزول ، فمنهم من خصها
باليهود الذين شرح الله أحوالهم في الآيات المتقدمة ، ومنهم من خصها بغيرهم .
أما الأول ففيه وجهان :
الأول : قال
عكرمة : إنها نزلت في
أحبار اليهود ، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة من أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - وكتبوا بأيديهم غيره وحلفوا بأنه من عند الله لئلا يفوتهم الرشا ، واحتج هؤلاء بقوله تعالى في سورة البقرة : (
وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) [ البقرة : 40 ] .
الثاني : أنها نزلت في ادعائهم أنه (
ليس علينا في الأميين سبيل ) [ آل عمران : 75 ] كتبوا بأيديهم كتابا في ذلك وحلفوا أنه من عند الله وهو قول
الحسن .
وأما الاحتمال الثاني : ففيه وجوه :
الأول : أنها
نزلت في nindex.php?page=showalam&ids=185الأشعث بن قيس ، وخصم له في أرض ، اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، فقال للرجل : " أقم بينتك " ، فقال الرجل : ليس لي بينة ، فقال للأشعث : " فعليك اليمين " ، فهم الأشعث باليمين فأنزل الله تعالى هذه الآية فنكل الأشعث عن اليمين ورد الأرض إلى الخصم واعترف بالحق ، وهو قول nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج .
الثاني : قال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد : نزلت في رجل حلف يمينا فاجرة في تنفيق سلعته .
الثالث : نزلت في
عبدان وامرئ القيس اختصما إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أرض ، فتوجه اليمين على
امرئ القيس ، فقال : أنظرني إلى الغد ، ثم جاء من الغد وأقر له بالأرض .
والأقرب الحمل على الكل .
فقوله : (
إن الذين يشترون بعهد الله ) يدخل فيه جميع ما أمر الله به ، ويدخل فيه ما نصب عليه الأدلة ، ويدخل فيه المواثيق المأخوذة من جهة الرسول ، ويدخل فيه ما يلزم الرجل نفسه ؛ لأن كل ذلك من عهد الله الذي يلزم الوفاء به .
قال تعالى : (
ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ) [ التوبة : 75 ] الآية ، وقال : (
وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ) [ الإسراء : 34 ] ، وقال : (
يوفون بالنذر ) [ الإنسان : 7 ] ، وقال : (
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) [ الأحزاب : 23 ] ، وقد ذكرنا في سورة البقرة معنى الشراء ، وذلك لأن المشتري يأخذ شيئا ويعطي شيئا ، فكل واحد من المعطى والمأخوذ ثمن للآخر ، وأما الأيمان فحالها معلوم وهي
الحلف التي يؤكد بها الإنسان خبره من وعد ، أو وعيد ، أو إنكار ، أو إثبات .