(
قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون )
قوله تعالى : (
قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون )
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة أنه إنما أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق الرسول الذي يأتي مصدقا لما معهم بين في هذه الآية أن من صفة -
محمد صلى الله عليه وسلم - كونه مصدقا لما معهم ، فقال : (
قل آمنا بالله ) إلى آخر الآية وهاهنا مسائل :
المسألة الأولى : وحد الضمير في " قل " ، وجمع في " آمنا " وفيه وجوه :
الأول : أنه تعالى حين خاطبه ، إنما خاطبه بلفظ الوحدان ، وعلمه أنه حين يخاطب القوم يخاطبهم بلفظ الجمع على وجه التعظيم
[ ص: 109 ] والتفخيم ، مثلما يتكلم الملوك والعظماء .
والثاني : أنه خاطبه أولا بخطاب الوحدان ليدل هذا الكلام على أنه لا مبلغ لهذا التكليف من الله إلى الخلق إلا هو ، ثم قال : " آمنا " تنبيها على أنه حين يقول هذا القول فإن أصحابه يوافقونه عليه .
الثالث : أنه تعالى عينه في هذا التكليف بقوله " قل " ليظهر به كونه مصدقا لما معهم ثم قال " آمنا " تنبيها على أن هذا التكليف ليس من خواصه ، بل هو لازم لكل المؤمنين كما قال : (
والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ) [ البقرة : 285 ] .
المسألة الثانية : قدم الإيمان بالله على الإيمان بالأنبياء ، لأن الإيمان بالله أصل الإيمان بالنبوة ، وفي المرتبة الثانية ذكر الإيمان بما أنزل عليه ، لأن
كتب سائر الأنبياء حرفوها وبدلوها فلا سبيل إلى معرفة أحوالها إلا بما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم ، فكان ما أنزل على
محمد كالأصل لما أنزل على سائر الأنبياء فلهذا قدمه عليه ، وفي المرتبة الثالثة ذكر بعض الأنبياء وهم الأنبياء الذين يعترف
أهل الكتاب بوجودهم ، ويختلفون في نبوتهم ، " والأسباط " هم أسباط
يعقوب - عليه السلام - الذين ذكر الله أممهم الاثني عشر في سورة الأعراف ، وإنما أوجب الله تعالى الإقرار بنبوة كل الأنبياء - عليهم السلام - لفوائد : إحداها : إثبات
كونه - عليه السلام - مصدقا لجميع الأنبياء ؛ لأن هذا الشرط كان معتبرا في أخذ الميثاق .
وثانيها : التنبيه على أن
مذاهب أهل الكتاب متناقضة ، وذلك لأنهم إنما يصدقون النبي الذي يصدقونه لمكان ظهور المعجزة عليه ، وهذا يقتضي أن كل من ظهرت المعجزة عليه كان نبيا ، وعلى هذا يكون تخصيص البعض بالتصديق والبعض بالتكذيب متناقضا ، بل الحق تصديق الكل والاعتراف بنبوة الكل .
وثالثها : أنه قال قبل هذه الآية : (
أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض ) ، وهذا تنبيه على أن إصرارهم على تكذيب بعض الأنبياء إعراض عن دين الله ومنازعة مع الله ، فهاهنا أظهر الإيمان بنبوة جميع الأنبياء ، ليزول عنه وعن أمته ما وصف أهل الكتاب به من منازعة الله في الحكم والتكليف .
ورابعها : أن في الآية الأولى ذكر أنه
أخذ الميثاق على جميع النبيين أن يؤمنوا بكل من أتى بعدهم من الرسل ، وهاهنا أخذ الميثاق على
محمد - صلى الله عليه وسلم - بأن يؤمن بكل من أتى قبله من الرسل ، ولم يأخذ عليه الميثاق لمن يأتي بعده من الرسل ، فكانت هذه الآية دالة من هذا الوجه على أنه لا نبي بعده البتة ، فإن قيل : لم عدى " أنزل " في هذه الآية بحرف الاستعلاء ، وفيما تقدم من مثلها بحرف الانتهاء ؟ قلنا : لوجود المعنيين جميعا ؛ لأن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل ، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر ، وقيل أيضا إنما قيل : " علينا " في حق الرسول ؛ لأن الوحي ينزل عليه " وإلينا " في حق الأمة ؛ لأن الوحي يأتيهم من الرسول على وجه الانتهاء وهذا تعسف ، ألا ترى إلى قوله : ( بما أنزل إليك ) ، ( وأنزل إليك الكتاب ) ، وإلى قوله : (
آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا ) .