(
فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين )
ثم قال تعالى : (
فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين )
واعلم أنه تعالى لما شرح طريقة الربيين في الصبر ، وطريقتهم في الدعاء ذكر أيضا ما ضمن لهم في مقابلة ذلك في الدنيا والآخرة فقال : (
فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله : (
فآتاهم الله ) يقتضي أنه تعالى أعطاهم الأمرين ، أما ثواب الدنيا فهو النصرة والغنيمة وقهر العدو والثناء الجميل ، وانشراح الصدر بنور الإيمان وزوال ظلمات الشبهات وكفارة المعاصي والسيئات ، وأما ثواب الآخرة فلا شك أنه هو الجنة وما فيها من المنافع واللذات وأنواع السرور والتعظيم ، وذلك غير حاصل في الحال ، فيكون المراد أنه تعالى حكم لهم بحصولها في الآخرة ، فأقام حكم الله بذلك مقام نفس الحصول ، كما أن الكذب في وعد الله والظلم في عدله محال ، أو يحمل قوله : ( فآتاهم ) على أنه سيؤتيهم على قياس قوله : (
أتى أمر الله ) [النحل : 1] أي سيأتي أمر الله . قال القاضي : ولا يمتنع أن تكون هذه الآية مختصة بالشهداء ، وقد أخبر الله تعالى عن بعضهم أنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، فيكون حال هؤلاء الربيين أيضا كذلك ، فإنه تعالى في حال إنزال هذه الآية كان قد آتاهم حسن ثواب الآخرة في جنان السماء .
المسألة الثانية :
خص تعالى ثواب الآخرة بالحسن تنبيها على جلالة ثوابهم ، وذلك لأن ثواب الآخرة كله في غاية الحسن ، فما خصه الله بأنه حسن من هذا الجنس فانظر كيف يكون حسنه ، ولم يصف ثواب الدنيا بذلك لقلتها وامتزاجها بالمضار ، وكونها منقطعة زائلة ، قال
القفال رحمه الله : يحتمل أن يكون الحسن هو الحسن كقوله : (
وقولوا للناس حسنا ) [البقرة : 83] أي حسنا ، والغرض منه المبالغة كأن تلك الأشياء
[ ص: 25 ] الحسنة لكونها عظيمة في الحسن صارت نفس الحسن ، كما يقال : فلان جود وكرم ، إذا كان في غاية الجود والكرم والله أعلم .
المسألة الثالثة : قال فيما تقدم : (
ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ) [آل عمران : 145] فذكر لفظة "من" الدالة على التبعيض فقال في الآية : (
فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ) ولم يذكر كلمة "من" والفرق : أن الذين يريدون ثواب الآخرة إنما اشتغلوا بالعبودية لطلب الثواب ، فكانت مرتبتهم في العبودية نازلة ، وأما المذكورون في هذه الآية فإنهم لم يذكروا في أنفسهم إلا الذنب والقصور ، وهو المراد من قوله : (
اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ) [آل عمران : 147] ولم يروا التدبير والنصرة والإعانة إلا من ربهم ، وهو المراد بقوله : (
وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) [آل عمران : 147] فكان مقام هؤلاء في العبودية في غاية الكمال ، فلا جرم أولئك فازوا ببعض الثواب ، وهؤلاء فازوا بالكل ، وأيضا أولئك أرادوا الثواب ، وهؤلاء ما أرادوا الثواب . وإنما أرادوا خدمة مولاهم فلا جرم أولئك حرموا وهؤلاء أعطوا ، ليعلم أن كل
من أقبل على خدمة الله أقبل على خدمته كل ما سوى الله .
ثم قال : (
والله يحب المحسنين ) وفيه دقيقة لطيفة وهي أن هؤلاء اعترفوا بكونهم مسيئين حيث قالوا : (
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ) فلما اعترفوا بذلك سماهم الله محسنين ، كأن الله تعالى يقول لهم :
إذا اعترفت بإساءتك وعجزك فأنا أصفك بالإحسان وأجعلك حبيبا لنفسي ، حتى تعلم أنه
لا سبيل للعبد إلى الوصول إلى حضرة الله إلا بإظهار الذلة والمسكنة والعجز . وأيضا : إنهم لما أرادوا الإقدام على الجهاد طلبوا تثبيت أقدامهم في دينه ونصرتهم على العدو من الله تعالى ، فعند ذلك سماهم بالمحسنين ، وهذا يدل على أن العبد لا يمكنه الإتيان بالفعل الحسن ، إلا إذا أعطاه الله ذلك الفعل الحسن وأعانه عليه ، ثم إنه تعالى قال : (
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) [الرحمن : 60] وقال : (
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) [يونس : 26] وكل ذلك يدل على أنه سبحانه هو الذي يعطي الفعل الحسن للعبد ، ثم إنه يثيبه عليه ليعلم العبد أن الكل من الله وبإعانة الله .