ثم
قال تعالى : ( وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : هؤلاء هم المنافقون
عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير وأصحابهما ، كان همهم خلاص أنفسهم ، يقال : همني الشيء أي كان من همي وقصدي ، قال
أبو مسلم : من عادة العرب أن يقولوا لمن خاف : قد أهمته نفسه ، فهؤلاء المنافقون لشدة خوفهم من القتل طار النوم عنهم ، وقيل : المؤمنون ، كان همهم النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانهم من المؤمنين ، والمنافقون كان همهم أنفسهم ، وتحقيق القول فيه : أن الإنسان إذا اشتد اشتغاله بالشيء واستغراقه فيه ، صار غافلا عما سواه ، فلما كان أحب الأشياء إلى الإنسان نفسه ، فعند الخوف على النفس يصير ذاهلا عن كل ما سواها ، فهذا هو المراد من قوله : (
أهمتهم أنفسهم ) وذلك لأن أسباب الخوف وهي قصد الأعداء كانت حاصلة والدافع لذلك وهو الوثوق بوعد الله ووعد رسوله ما كان معتبرا عندهم ؛ لأنهم كانوا مكذبين بالرسول في قلوبهم ، فلا جرم عظم الخوف في قلوبهم .
المسألة الثانية : (
وطائفة ) رفع بالابتداء وخبره (
يظنون ) وقيل خبره (
أهمتهم أنفسهم ) ثم إنه تعالى وصف هذه الطائفة بأنواع من الصفات .
الصفة الأولى : من صفاتهم قوله تعالى : (
يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في هذا الظن احتمالان :
أحدهما : وهو الأظهر : هو أن ذلك الظن أنهم كانوا يقولون في أنفسهم : لو كان
محمد محقا في دعواه لما سلط الكفار عليه ، وهذا ظن فاسد ، أما على قول أهل السنة والجماعة ، فلأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه ، فإن النبوة خلعة من الله سبحانه يشرف عبده بها ، وليس يجب في العقل أن المولى إذا شرف عبده بخلعة أن يشرفه بخلعة أخرى ، بل له الأمر والنهي كيف شاء بحكم الإلهية ، وأما على قول من يعتبر المصالح في أفعال الله وأحكامه ، فلا يبعد أن يكون لله تعالى في التخلية بين الكافر والمسلم ، بحيث يقهر الكافر المسلم ، حكم خفية وألطاف مرعية ، فإن الدنيا دار الامتحان والابتلاء ، ووجوه المصالح مستورة عن العقول ، فربما كانت المصلحة في التخلية بين الكافر والمؤمن حتى يقهر الكافر المؤمن ، وربما كانت المصلحة في تسليط الفقر والزمانة على المؤمنين . قال
القفال : لو كان كون المؤمن محقا يوجب زوال هذه المعاني لوجب أن يضطر الناس إلى معرفة المحق بالجبر ، وذلك ينافي التكليف واستحقاق الثواب والعقاب ، بل الإنسان إنما يعرف كونه محقا بما معه من الدلائل والبينات ، فأما القهر فقد يكون من المبطل للمحق ، ومن المحق للمبطل ، وهذه جملة كافية في بيان أنه لا يجوز الاستدلال بالدولة والشوكة ووفور القوة على أن صاحبها على الحق .
الثاني : أن ذلك الظن هو أنهم كانوا ينكرون إله العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات ، وينكرون النبوة
[ ص: 39 ] والبعث ، فلا جرم ما وثقوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم في أن الله يقويهم وينصرهم .
المسألة الثانية : (
غير الحق ) في حكم المصدر ، ومعناه : يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به [وظن الجاهلية] بدل منه ، والفائدة في هذا الترتيب أن غير الحق أديان كثيرة ، وأقبحها مقالات أهل الجاهلية ، فذكر أولا أنهم يظنون بالله غير الظن الحق ، ثم بين أنهم اختاروا من أقسام الأديان التي غير حقة أركها وأكثرها بطلانا ، وهو
ظن أهل الجاهلية ، كما يقال : فلان دينه ليس بحق ، دينه دين الملاحدة .
المسألة الثالثة : في قوله : (
ظن الجاهلية ) قولان :
أحدهما : أنه كقولك : حاتم الجود ، وعمر العدل ، يريد الظن المختص بالملة الجاهلية .
والثاني : المراد : ظن أهل الجاهلية .
الصفة الثانية :
من الصفات التي ذكرها الله تعالى لهؤلاء المنافقين قوله تعالى : (
يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله ) .
واعلم أن قوله : (
هل لنا من الأمر من شيء ) حكاية للشبهة التي تمسك أهل النفاق بها ، وهو يحتمل وجوها :
الأول : أن
عبد الله بن أبي لما شاوره النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة أشار عليه بأن لا يخرج من
المدينة ، ثم إن الصحابة ألحوا على النبي صلى الله عليه وسلم في أن يخرج إليهم ، فغضب
عبد الله بن أبي من ذلك ، فقال : عصاني وأطاع الولدان ، ثم لما كثر القتل في
بني الخزرج ، ورجع
عبد الله بن أبي قيل له : قتل
بنو الخزرج ، فقال : هل لنا من الأمر من شيء ، يعني أن
محمدا لم يقبل قولي حين أمرته بأن يسكن في
المدينة ولا يخرج منها ، ونظيره ما حكاه الله عنهم أنهم قالوا : (
لو أطاعونا ما قتلوا ) [آل عمران : 168] والمعنى : هل لنا من أمر يطاع ؟ وهو استفهام على سبيل الإنكار .
الوجه الثاني في التأويل : أن من عادة العرب أنه إذا كانت الدولة لعدوه قالوا : عليه الأمر ، فقوله : (
هل لنا من الأمر من شيء ) أي هل لنا من الشيء الذي كان يعدنا به
محمد ، وهو النصرة والقوة شيء ؟ وهذا استفهام على سبيل الإنكار ، وكان غرضهم منه الاستدلال بذلك على أن
محمدا صلى الله عليه وسلم كان كاذبا في ادعاء النصرة والعصمة من الله تعالى لأمته ، وهذا استفهام على سبيل الإنكار .
الثالث : أن يكون التقدير : أنطمع أن تكون لنا الغلبة على هؤلاء ، والغرض منه تصبير المسلمين في التشديد في الجهاد والحرب مع الكفار ، ثم إن الله سبحانه أجاب عن هذه الشبهة بقوله : (
قل إن الأمر كله لله ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ
أبو عمرو ( كله ) برفع اللام ، والباقون بالنصب ، أما وجه الرفع فهو أن قوله : [كله] مبتدأ وقوله : [لله] خبره ، ثم صارت هذه الجملة خبرا ل [إن] ، وأما النصب فلأن لفظة "كل" للتأكيد ، فكانت كلفظة أجمع ، ولو قيل : إن الأمر أجمع ، لم يكن إلا النصب ، فكذا إذا قال "كله" .
المسألة الثانية : الوجه في تقرير هذا الجواب ما بينا : أنا إذا قلنا بمذهب أهل السنة لم يكن على الله اعتراض في شيء من أفعاله في الإماتة والإحياء ، والفقر والإغناء والسراء والضراء ، وإن قلنا بمذهب القائلين برعاية المصالح ، فوجوه المصالح مخفية لا يعلمها إلا الله تعالى ، فربما كانت المصلحة في إيصال السرور واللذة ، وربما كانت في تسليط الأحزان والآلام ، فقد اندفعت شبهة المنافقين من هذا الوجه .
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن
جميع المحدثات بقضاء الله وقدره ، وذلك لأن
[ ص: 40 ] المنافقين قالوا : إن
محمدا لو قبل منا رأينا ونصحنا ، لما وقع في هذه المحنة ، فأجاب الله عنه بأن الأمر كله لله ، وهذا الجواب إنما ينتظم لو كانت أفعال العباد بقضاء الله وقدره ومشيئته إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب دافعا لشبهة المنافقين ، فثبت أن هذه الآية دالة على ما ذكرنا . وأيضا فظاهر هذه الآية مطابق للبرهان العقلي ، وذلك لأن الموجود ، إما واجب لذاته أو ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه إلا عند الانتهاء إلى الواجب لذاته ، فثبت أن كل ما سوى الله تعالى مستند إلى إيجاده وتكوينه ، وهذه القاعدة لا اختصاص لها بمحدث دون محدث ، أو ممكن دون ممكن ، فتدخل فيه أفعال العباد وحركاتهم وسكناتهم ، وذلك هو المراد بقوله : (
قل إن الأمر كله لله ) وهذا كلام في غاية الظهور لمن وفقه الله للإنصاف .