الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم إنه تعالى قال : ( يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا : هل لنا من الأمر من شيء ، وهذا الكلام محتمل ، فلعل قائله كان من المؤمنين المحقين ، وكان غرضه منه إظهار الشفقة ، وإنه متى يكون الفرج ؟ ومن أين تحصل النصرة ؟ ولعله كان من المنافقين ، وإنما قاله طعنا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفي الإسلام فبين تعالى في هذه الآية أن غرض هؤلاء من هذا الكلام هذا القسم الثاني ، والفائدة في هذا التنبيه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم متحرزا عن مكرهم وكيدهم .

                                                                                                                                                                                                                                            النوع الثالث : من الأشياء التي حكى الله عن المنافقين ، قولهم : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . وفيه إشكال ، وهو أن لقائل أن يقول : ما الفرق بين هذا الكلام وبين ما تقدم من قوله : ( هل لنا من الأمر من شيء ) ويمكن أن يجاب عنه من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه تعالى لما حكى عنهم قولهم : ( هل لنا من الأمر من شيء ) فأجاب عنه بقوله : ( الأمر كله لله ) واحتج المنافقون على الطعن في هذا الجواب بقولهم : لو كان لنا من الأمر شيء لما خرجنا من المدينة وما قتلنا هاهنا ، فهذا يدل على أنه ليس الأمر كما قلتم من أن الأمر كله لله ، وهذا هو بعينه المناظرة الدائرة بين أهل السنة وأهل الاعتزال فإن السني يقول : الأمر كله في الطاعة والمعصية والإيمان والكفر بيد الله ، فيقول المعتزلي : ليس الأمر كذلك ، فإن الإنسان مختار مستقل بالفعل ، إن شاء آمن ، وإن شاء كفر ، فعلى هذا الوجه لا يكون هذا الكلام شبهة مستقلة بنفسها ، بل يكون الغرض منه الطعن فيما جعله الله تعالى جوابا عن الشبهة الأولى .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن يكون المراد من قوله : ( هل لنا من الأمر من شيء ) هو أنه هل لنا من النصرة التي وعدنا بها محمد شيء ، ويكون المراد من قوله : ( لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ) هو ما كان يقوله عبد الله بن أبي من أن محمدا لو أطاعني وما خرج من المدينة ما قتلنا هاهنا .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول من الجواب : قوله : ( قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ) والمعنى أن الحذر لا يدفع القدر ، والتدبير لا يقاوم التقدير ، فالذين قدر الله عليهم القتل لا بد وأن يقتلوا على جميع التقديرات ؛ لأن الله تعالى لما أخبر أنه يقتل ، فلو لم يقتل لانقلب علمه جهلا ؛ وقد بينا أيضا أنه ممكن [ ص: 41 ] فلا بد من انتهائه إلى إيجاد الله تعالى ، فلو لم يجد لانقلبت قدرته عجزا ، وكل ذلك محال ، ومما يدل على تحقيق الوجوب كما قررنا قوله : ( الذين كتب عليهم القتل ) وهذه الكلمة تفيد الوجوب ، فإن هذه الكلمة في قوله : ( كتب عليكم الصيام ) ( كتب عليكم القصاص ) [البقرة : 178] تفيد وجوب الفعل ، وهاهنا لا يمكن حملها على وجوب الفعل ، فوجب حملها على وجوب الوجود وهذا كلام في غاية الظهور لمن أيده الله بالتوفيق ، ثم نقول : للمفسرين فيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : لو جلستم في بيوتكم لخرج منكم من كتب الله عليهم القتل إلى مضاجعهم ومصارعهم حتى يوجد ما علم الله أنه يوجد .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : كأنه قيل للمنافقين لو جلستم في بيوتكم وتخلفتم عن الجهاد لخرج المؤمنون الذين كتب عليهم قتال الكفار إلى مضاجعهم ، ولم يتخلفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلفكم .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني في الجواب عن تلك الشبهة : قوله : ( وليبتلي الله ما في صدوركم ) وذلك لأن القوم زعموا أن الخروج إلى تلك المقاتلة كان مفسدة ، ولو كان الأمر إليهم لما خرجوا إليها ، فقال تعالى : بل هذه المقاتلة مشتملة على نوعين من المصلحة : أن يتميز الموافق من المنافق ، وفي المثل المشهور : لا تكرهوا الفتن فإنها حصاد المنافقين ، ومعنى الابتلاء في حق الله تعالى قد مر تفسيره مرارا كثيرة .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : لم ذكر الابتلاء وقد سبق ذكره في قوله : ( ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : لما طال الكلام أعاد ذكره ، وقيل : الابتلاء الأول هزيمة المؤمنين ، والثاني سائر الأحوال .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثالث في الجواب : قوله : ( وليمحص ما في قلوبكم ) وفيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن هذه الواقعة تمحص قلوبكم عن الوساوس والشبهات .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنها تصير كفارة لذنوبكم فتمحصكم عن تبعات المعاصي والسيئات ، وذكر في الابتلاء الصدور ، وفي التمحيص القلوب ، وفيه بحث ثم قال : ( والله عليم بذات الصدور ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن ذات الصدور هي الأشياء الموجودة في الصدور ، وهي الأسرار والضمائر ، وهي ذات الصدور ؛ لأنها حالة فيها مصاحبة لها ، وصاحب الشيء ذوه وصاحبته ذاته ، وإنما ذكر ذلك ليدل به على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يخفى عليه ما في الصدور ، أو غير ذلك ؛ لأنه عالم بجميع المعلومات وإنما ابتلاهم إما لمحض الإلهية ، أو للاستصلاح .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية