صفحة جزء
( فإن كان له إخوة فلأمه السدس ) .

قوله تعالى : ( فإن كان له إخوة فلأمه السدس ) .

اعلم أن هذا هو الحالة الثالثة من أحوال الأبوين وهي أن يوجد معهما الإخوة ، والأخوات وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : اتفقوا على أن الأخت الواحدة لا تحجب الأم من الثلث إلى السدس ، واتفقوا على أن الثلاثة يحجبون ، واختلفوا في الأختين ، فالأكثرون من الصحابة على القول بإثبات الحجب كما في الثلاثة ، وقال ابن عباس : لا يحجبان كما في حق الواحدة ، حجة ابن عباس أن الآية دالة على أن هذا الحجب مشروط بوجود الإخوة ، ولفظ الإخوة جمع وأقل الجمع ثلاثة على ما ثبت في أصول الفقه ، فإذا لم توجد الثلاثة لم يحصل شرط الحجب ، فوجب أن لا يحصل الحجب . روي أن ابن عباس قال لعثمان : بم صار الأخوان يردان الأم من الثلث إلى السدس ؟ وإنما قال الله تعالى : ( فإن كان له إخوة ) والأخوان في لسان قومك ليسا بإخوة ؟ فقال عثمان : لا أستطيع أن أرد قضاء قضى به من قبلي ومضى في الأمصار .

واعلم أن في هذه الحكاية دلالة على أن أقل الجمع ثلاثة ؛ لأن ابن عباس ذكر ذلك مع عثمان ، وعثمان ما أنكره ، وهما كانا من صميم العرب ، ومن علماء اللسان ، فكان اتفاقهما حجة في ذلك .

واعلم أن للعلماء في أقل الجمع قولين : الأول : أن أقل الجمع اثنان وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رحمة الله عليه ، واحتجوا فيه بوجوه :

أحدها : قوله تعالى : ( فقد صغت قلوبكما ) [ التحريم : 4 ] ولا يكون للإنسان الواحد أكثر من قلب واحد .

وثانيها : قوله تعالى : ( فإن كن نساء فوق اثنتين ) والتقييد بقوله : فوق اثنتين إنما يحسن لو كان لفظ النساء صالحا للثنتين .

وثالثها : قوله : " الاثنان فما فوقهما جماعة " والقائلون بهذا المذهب زعموا أن ظاهر الكتاب يوجب الحجب بالأخوين ، إلا أن الذي نصرناه في أصول الفقه أن أقل الجمع ثلاثة ، وعلى هذا التقدير فظاهر الكتاب لا يوجب الحجب بالأخوين ، وإنما الموجب لذلك هو القياس ، وتقريره أن نقول : الأختان يوجبان الحجب ، وإذا كان كذلك فالأخوان وجب أن يحجبا أيضا ، إنما [ ص: 175 ] قلنا : إن الأختين يحجبان ، وذلك لأنا رأينا أن الله تعالى نزل الاثنين من النساء منزلة الثلاثة في باب الميراث ، ألا ترى أن نصيب البنتين ونصيب الثلاثة هو الثلثان ، وأيضا نصيب الأختين من الأم ونصيب الثلاثة هو الثلث ، فهذا الاستقراء يوجب أن يحصل الحجب بالأختين ، كما أنه حصل بالأخوات الثلاثة ، فثبت أن الأختين يحجبان ، وإذا ثبت ذلك في الأختين لزم ثبوته في الأخوين ، لأنه لا قائل بالفرق ، فهذا أحسن ما يمكن أن يقال في هذا الموضع ، وفيه إشكال ؛ لأن إجراء القياس في التقديرات صعب لأنه غير معقول المعنى ، فيكون ذلك مجرد تشبيه من غير جامع ، ويمكن أن يقال : لا يتمسك به على طريقة القياس ، بل على طريقة الاستقراء ؛ لأن الكثرة أمارة العموم ، إلا أن هذا الطريق في غاية الضعف ، والله أعلم ، واعلم أنه تأكد هذا بإجماع التابعين على سقوط مذهب ابن عباس ، والأصح في أصول الفقه أن الإجماع الحاصل عقيب الخلاف حجة . والله أعلم .

المسألة الثانية : الإخوة إذا حجبوا الأم من الثلث إلى السدس فهم لا يرثون شيئا البتة ، بل يأخذ الأب كل الباقي وهو خمسة أسداس ، سدس بالفرض ، والباقي بالتعصيب ، وقال ابن عباس : الإخوة يأخذون السدس الذي حجبوا الأم عنه ، وما بقي فللأب ، وحجته أن الاستقراء دل على أن من لا يرث لا يحجب ، فهؤلاء الإخوة لما حجبوا وجب أن يرثوا ، وحجة الجمهور أن عند عدم الإخوة كان المال ملكا للأبوين ، وعند وجود الإخوة لم يذكرهم الله تعالى إلا بأنهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس ، ولا يلزم من كونه حاجبا كونه وارثا ، فوجب أن يبقى المال بعد حصول هذا الحجب على ملك الأبوين ، كما كان قبل ذلك ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية