المسألة الثانية عشرة : ذكرنا أن قوله : (
فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) يدل على صحة
العمل بالقياس ، فنقول : كما أن هذه الآية دلت على هذا الأصل ، فكذلك دلت على مسائل كثيرة من فروع القول بالقياس ، ونحن نذكر بعضها :
الفرع الأول : قد ذكرنا أن قوله : (
فردوه إلى الله ) معناه فردوه إلى واقعة بين الله حكمها ، ولا بد وأن يكون المراد فردوها إلى واقعة تشبهها ، إذ لو كان المراد بردها ردها إلى واقعة تخالفها في الصورة والصفة ، فحينئذ لم يكن ردها إلى بعض الصور أولى من ردها إلى الباقي ، وحينئذ يتعذر الرد ، فعلمنا أنه لا بد وأن يكون المراد : فردوها إلى واقعة تشبهها في الصورة والصفة . ثم إن هذا المعنى الذي قلناه يؤكد بالخبر والأثر ، أما الخبر فإنهم لما
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012411سألوه صلى الله عليه وسلم عن قبلة الصائم فقال عليه الصلاة والسلام : " أرأيت لو تمضمضت " يعني المضمضة مقدمة الأكل ، كما أن القبلة مقدمة الجماع ، فكما أن تلك المضمضة لم تنقض الصوم ، فكذا القبلة . ولما سألته الخثعمية عن الحج فقال عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012412أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته هل يجزي فقالت نعم : قال عليه الصلاة والسلام : فدين الله أحق بالقضاء " وأما الأثر فما روي عن
عمر رضي الله عنه أنه قال : اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك ، فدل مجموع ما ذكرناه من دلالة هذه الآية ودلالة الخبر ودلالة الأثر على أن قوله : (
فردوه ) أمر برد الشيء إلى شبيهه ، وإذا ثبت هذا فقد جعل الله المشابهة في الصورة والصفة دليلا على أن الحكم في غير محل النص مشابه للحكم في محل النص ، وهذا هو الذي يسميه
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله قياس الأشباه ، ويسميه أكثر الفقهاء
قياس الطرد ، ودلت هذه الآية على صحته لأنه لما ثبت بالدليل أن المراد من قوله : (
فردوه ) هو أنه : ردوه إلى شبيهه ، علمنا أن الأصل المعول عليه في باب القياس محض المشابهة ، وهذا بحث فيه طول ، ومرادنا بيان كيفية استنباط المسائل من الآيات ، فأما
[ ص: 122 ] الاستقصاء فيها فمذكور في سائر الكتب .
الفرع الثاني : دلت الآية على أن
شرط الاستدلال بالقياس في المسألة أن لا يكون فيها نص من الكتاب والسنة لأن قوله : (
فإن تنازعتم في شيء فردوه ) مشعر بهذا الاشتراط .
الفرع الثالث : دلت الآية على أنه إذا لم يوجد في الواقعة نص من الكتاب والسنة والإجماع جاز استعمال القياس فيه كيف كان ، وبطل به قول من قال : لا يجوز
استعمال القياس في الكفارات والحدود وغيرهما ؛ لأن قوله : (
فإن تنازعتم في شيء ) عام في كل واقعة لا نص فيها .
الفرع الرابع : دلت الآية على أن
من أثبت الحكم في صورة بالقياس فلا بد وأن يقيسه على صورة ثبت الحكم فيها بالنص ، ولا يجوز أن يقيسه على صورة ثبت الحكم فيها بالقياس لأن قوله : (
فردوه إلى الله والرسول ) ظاهره مشعر بأنه يجب رده إلى الحكم الذي ثبت بنص الله ونص رسوله .
الفرع الخامس : دلت الآية على أن القياس على الأصل الذي ثبت حكمه بالقرآن ، والقياس على الأصل الذي ثبت حكمه بالسنة إذا تعارضا كان القياس على القرآن مقدما على القياس على الخبر لأنه تعالى قدم الكتاب على السنة في قوله : (
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) وفي قوله : (
فردوه إلى الله والرسول ) وكذلك في خبر
معاذ .
الفرع السادس : دلت الآية على أنه إذا تعارض قياسان أحدهما تأيد بإيماء في كتاب الله والآخر تأيد بإيماء خبر من أخبار رسول الله ، فإن الأول مقدم على الثاني ، يعني كما ذكرناه في الفرع الخامس ، فهذه المسائل الأصولية استنبطناها من هذه الآية في أقل من ساعتين ، ولعل الإنسان إذا استعمل الفكر على الاستقصاء أمكنه استنباط أكثر مسائل أصول الفقه من هذه الآية .
المسألة الثالثة عشرة : قوله : (
وأولي الأمر ) معناه ذوو الأمر وأولو جمع ، وواحده ذو على غير القياس ، كالنساء والإبل والخيل ، كلها أسماء للجمع ولا واحد له في اللفظ .
المسألة الرابعة عشرة : قوله : (
فإن تنازعتم ) قال
الزجاج : اختلفتم وقال كل فريق : القول قولي واشتقاق المنازعة من النزع الذي هو الجذب ، والمنازعة عبارة عن مجاذبة كل واحد من الخصمين لحجة مصححة لقوله ، أو محاولة جذب قوله ونزعه إياه عما يفسده .