صفحة جزء
الباب الحادي عشر

في بعض النكت المستخرجة من قولنا : بسم الله الرحمن الرحيم

النكتة الأولى : مرض موسى عليه السلام واشتد وجع بطنه ، فشكا إلى الله تعالى ، فدله على عشب في المفازة ، فأكل منه فعوفي بإذن الله تعالى ، ثم عاوده ذلك المرض في وقت آخر فأكل ذلك العشب فازداد مرضه ، فقال : يا رب ، أكلته أولا فانتفعت به ، وأكلته ثانيا فازداد مرضي ، فقال : لأنك في المرة الأولى ذهبت مني إلى الكلأ فحصل فيه الشفاء ، وفي المرة الثانية ذهبت منك إلى الكلأ فازداد المرض ، أما علمت أن الدنيا كلها سم قاتل وترياقها اسمي ؟

الثانية : باتت رابعة ليلة في التهجد والصلاة ، فلما انفجر الصبح نامت ، فدخل السارق دارها وأخذ ثيابها ، وقصد الباب فلم يهتد إلى الباب ، فوضعها فوجد الباب ، ففعل ذلك ثلاث مرات ، فنودي من زاوية البيت : ضع القماش واخرج ، فإن نام الحبيب فالسلطان يقظان .

الثالثة : كان بعض العارفين يرعى غنما ، وحضر في قطيع غنمه الذئاب ، وهي لا تضر أغنامه ، فمر عليه رجل وناداه : متى اصطلح الذئب والغنم ؟ فقال الراعي : من حين اصطلح الراعي مع الله تعالى .

الرابعة : قوله : ( بسم الله ) معناه أبدأ باسم الله ، فأسقط منه قوله " أبدأ " تخفيفا ، فإذا قلت بسم الله ، فكأنك قلت أبدأ باسم الله ، والمقصود منه التنبيه على أن العبد من أول ما شرع في العمل كان مدار أمره على التسهيل والتخفيف والمسامحة ، فكأنه تعالى في أول كلمة ذكرها لك جعلها دليلا على الصفح والإحسان .

الخامسة : روي أن فرعون قبل أن يدعي الإلهية بنى قصرا وأمر أن يكتب " بسم الله " على بابه [ ص: 141 ] الخارج ، فلما ادعى الإلهية وأرسل إليه موسى عليه السلام ودعاه فلم ير به أثر الرشد قال : إلهي كم أدعوه ولا أرى به خيرا ، فقال تعالى : يا موسى ، لعلك تريد إهلاكه ، أنت تنظر إلى كفره وأنا أنظر إلى ما كتبه على بابه ، والنكتة أن من كتب هذه الكلمة على بابه الخارج صار آمنا من الهلاك وإن كان كافرا ، فالذي كتبه على سويداء قلبه من أول عمره إلى آخره كيف يكون حاله ؟

السادسة : سمى نفسه رحمانا رحيما ، فكيف لا يرحم ؟ روي أن سائلا وقف على باب رفيع فسأل شيئا ، فأعطي قليلا ، فجاء في اليوم الثاني بفأس وأخذ يخرب الباب فقيل له : ولم تفعل ؟ قال : إما أن يجعل الباب لائقا بالعطية أو العطية لائقة بالباب ، إلهنا إن بحار الرحمة بالنسبة إلى رحمتك أقل من الذرة بالنسبة إلى العرش ، فكما ألقيت في أول كتابك على عبادك صفة رحمتك فلا تجعلنا محرومين عن رحمتك وفضلك .

السابعة : " الله " إشارة إلى القهر والقدرة والعلو ، ثم ذكر عقيبه الرحمن الرحيم ، وذلك يدل على أن رحمته أكثر وأكمل من قهره .

الثامنة : كثيرا ما يتفق لبعض عبيد الملك أنهم إذا اشتروا شيئا من الخيل والبغال والحمير وضعوا عليها سمة الملك لئلا يطمع فيها الأعداء ، فكأنه تعالى يقول : إن لطاعتك عدوا وهو الشيطان ، فإذا شرعت في عمل فاجعل عليه سمتي وقل : بسم الله الرحمن الرحيم ؛ حتى لا يطمع العدو فيها .

التاسعة : اجعل نفسك قرين ذكر الله تعالى حتى لا تبعد عنه في الدارين ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دفع خاتمه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال : اكتب فيه لا إله إلا الله ، فدفعه إلى النقاش وقال : اكتب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فكتب النقاش فيه ذلك ، فأتى أبو بكر بالخاتم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأى النبي فيه لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، أبو بكر الصديق ، فقال : يا أبا بكر ما هذه الزوائد ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله ما رضيت أن أفرق اسمك عن اسم الله ، وأما الباقي فما قلته ، وخجل أبو بكر ، فجاء جبريل عليه السلام وقال : يا رسول الله ، أما اسم أبي بكر فكتبته أنا ؛ لأنه ما رضي أن يفرق اسمك عن اسم الله ، فما رضي الله أن يفرق اسمه عن اسمك ، والنكتة أن أبا بكر لما لم يرض بتفريق اسم محمد صلى الله عليه وسلم عن اسم الله عز وجل وجد هذه الكرامة ، فكيف إذا لم يفارق المرء ذكر الله تعالى ؟

العاشرة : أن نوحا عليه السلام لما ركب السفينة قال : ( بسم الله مجراها ومرساها ) [ هود : 41 ] فوجد النجاة بنصف هذه الكلمة ، فمن واظب على هذه الكلمة طول عمره كيف يبقى محروما عن النجاة ؟ وأيضا أن سليمان عليه السلام نال مملكة الدنيا والآخرة بقوله : ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) [ النمل : 30 ] فالمرجو أن العبد إذا قاله فاز بملك الدنيا والآخرة .

الحادية عشرة : إن قال قائل : لم قدم سليمان عليه السلام اسم نفسه على اسم الله تعالى في قوله : ( إنه من سليمان ) فالجواب من وجوه :

الأول : أن بلقيس لما وجدت ذلك الكتاب موضوعا على وسادتها ، ولم يكن لأحد إليها طريق ، ورأت الهدهد واقفا على طرف الجدار ، علمت أن ذلك الكتاب من سليمان ، فأخذت الكتاب وقالت : إنه من سليمان ، فلما فتحت الكتاب ورأت بسم الله الرحمن الرحيم قالت : وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ، فقوله : ( إنه من سليمان ) من كلام بلقيس لا كلام سليمان .

الثاني : لعل سليمان كتب على عنوان الكتاب " إنه من سليمان " وفي داخل الكتاب ابتدأ بقوله : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) كما هو العادة في جميع [ ص: 142 ] الكتب ، فلما أخذت بلقيس ذلك الكتاب قرأت ما في عنوانه ، فقالت : إنه من سليمان ، فلما فتحت الكتاب قرأت : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقالت : وإنه بسم الله الرحمن الرحيم .

الثالث : أن بلقيس كانت كافرة ، فخاف سليمان أن تشتم الله إذا نظرت في الكتاب ، فقدم اسم نفسه على اسم الله تعالى ؛ ليكون الشتم له لا لله تعالى .

الثانية عشرة : الباء من " بسم " مشتق من البر ، فهو البار على المؤمنين بأنواع الكرامات في الدنيا والآخرة ، وأجل بره وكرامته أن يكرمهم يوم القيامة برؤيته .

مرض لبعضهم جار يهودي قال : فدخلت عليه للعيادة ، وقلت له : أسلم ، فقال : على ماذا ؟ قلت : من خوف النار ، قال : لا أبالي بها ، فقلت : للفوز بالجنة ، فقال : لا أريدها ، قلت : فماذا تريد ؟ قال : على أن يريني وجهه الكريم ، قلت : أسلم على أن تجد هذا المطلوب ، فقال لي : اكتب بهذا خطا ، فكتبت له بذلك خطا ، فأسلم ومات من ساعته ، فصلينا عليه ودفناه ، فرأيته في النوم كأنه يتبختر ، فقلت له : يا شمعون ، ما فعل بك ربك ؟ قال : غفر لي ، وقال لي : أسلم تشوقا إلي .

وأما السين فهو مشتق من اسمه السميع ، يسمع دعاء الخلق من العرش إلى ما تحت الثرى .

روي أن زيد بن حارثة خرج مع منافق من مكة إلى الطائف ، فبلغا خربة فقال المنافق : ندخل هاهنا ونستريح ، فدخلا ، ونام زيد ، فأوثق المنافق زيدا وأراد قتله ، فقال زيد : لم تقتلني ؟ قال : لأن محمدا يحبك وأنا أبغضه ، فقال زيد : يا رحمن أغثني ، فسمع المنافق صوتا يقول : ويحك لا تقتله ، فخرج من الخربة ونظر فلم ير أحدا ، فرجع وأراد قتله فسمع صائحا أقرب من الأول يقول : لا تقتله ، فنظر فلم يجد أحدا ، فرجع الثالثة وأراد قتله فسمع صوتا قريبا يقول : لا تقتله ، فخرج فرأى فارسا معه رمح ، فضربه الفارس ضربة فقتله ، ودخل الخربة وحل وثاق زيد ، وقال له : أما تعرفني ؟ أنا جبريل حين دعوت كنت في السماء السابعة ، فقال الله عز وجل : أدرك عبدي ، وفي الثانية كنت في السماء الدنيا ، وفي الثالثة بلغت إلى المنافق .

وأما الميم فمعناه أن من العرش إلى ما تحت الثرى ملكه وملكه .

قال السدي : أصاب الناس قحط على عهد سليمان بن داود عليهما السلام ، فأتوه فقالوا له : يا نبي الله ، لو خرجت بالناس إلى الاستسقاء ، فخرجوا ، وإذا بنملة قائمة على رجليها باسطة يديها وهي تقول : اللهم إنا خلق من خلقك ، ولا غنى لي عن فضلك ، قال : فصب الله تعالى عليهم المطر ، فقال لهم سليمان عليه السلام : ارجعوا فقد استجيب لكم بدعاء غيركم .

التالي السابق


الخدمات العلمية