(
إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ) .
قوله تعالى : (
إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ) .
اعلم أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد أتبعه
بعقاب من قعد عنه ورضي بالسكون في دار الكفر ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال
الفراء : إن شئت جعلت ( توفاهم ) ماضيا ، ولم تضم تاء مع التاء ، مثل قوله : (
إن البقر تشابه علينا ) [البقرة : 70] . وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية إخبارا عن حال أقوام معينين انقرضوا ومضوا ، وإن شئت جعلته مستقبلا ، والتقدير : إن الذين تتوفاهم الملائكة ، وعلى هذا التقدير تكون الآية عامة في حق كل من كان بهذه الصفة .
المسألة الثانية : في هذا التوفي قولان :
الأول : وهو قول الجمهور معناه تقبض أرواحهم عند الموت .
فإن قيل : فعلى هذا القول كيف الجمع بينه وبين قوله تعالى : (
الله يتوفى الأنفس حين موتها ) [الزمر : 42] (
الذي خلق الموت والحياة ) [الملك : 2] (
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ) [البقرة : 28] وبين قوله : (
قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ) [السجدة : 11] . قلنا : خالق الموت هو الله تعالى ، والرئيس المفوض إليه هذا العمل هو ملك الموت ، وسائر الملائكة أعوانه .
القول الثاني : توفاهم الملائكة يعني : يحشرونهم إلى النار ، وهو قول
الحسن .
المسألة الثالثة :
في خبر ( إن ) وجوه :
الأول : أنه هو قوله : قالوا لهم فيم كنتم ، فحذف "لهم" لدلالة الكلام عليه .
الثاني : أن الخبر هو قوله : (
فأولئك مأواهم جهنم ) فيكون " قالوا لهم" في موضع (
ظالمي أنفسهم ) ؛ لأنه نكرة .
الثالث : أن الخبر محذوف وهو هلكوا ، ثم فسر الهلاك بقوله : (
قالوا فيم كنتم ) أما قوله تعالى : (
ظالمي أنفسهم ) ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قوله : (
ظالمي أنفسهم ) في محل النصب على الحال ، والمعنى تتوفاهم الملائكة في
[ ص: 11 ] حال ظلمهم أنفسهم ، وهو وإن أضيف إلى المعرفة إلا أنه نكرة في الحقيقة ؛ لأن المعنى على الانفصال ، كأنه قيل ظالمين أنفسهم ، إلا أنهم حذفوا النون ؛ طلبا للخفة ، واسم الفاعل سواء أريد به الحال ، أو الاستقبال فقد يكون مفصولا في المعنى وإن كان موصولا في اللفظ ، وهو كقوله تعالى : (
هذا عارض ممطرنا ) . [الأحقاف : 24] ، (
هديا بالغ الكعبة ) . [المائدة : 95] ، (
ثاني عطفه ) . [الحج : 9] فالإضافة في هذه المواضع كلها لفظية لا معنوية .
المسألة الثانية : الظلم قد يراد به الكفر ، قال تعالى : (
إن الشرك لظلم عظيم ) [ لقمان : 13] . وقد يراد به المعصية (
فمنهم ظالم لنفسه ) [فاطر : 32] . وفي المراد بالظلم في هذه قولان :
الأول : أن المراد الذين
أسلموا في دار الكفر وبقوا هناك ، ولم يهاجروا إلى دار الإسلام .
الثاني : أنها نزلت في قوم من المنافقين كانوا يظهرون الإيمان للمؤمنين خوفا ، فإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا لهم الكفر ولم يهاجروا إلى
المدينة ، فبين الله تعالى بهذه الآية أنهم ظالمون لأنفسهم بنفاقهم وكفرهم وتركهم الهجرة .
وأما قوله تعالى : (
قالوا فيم كنتم ) ففيه وجوه :
أحدها : فيم كنتم من أمر دينكم .
وثانيها : فيم كنتم في حرب
محمد أو في حرب أعدائه .
وثالثها : لم تركتم الجهاد ولم رضيتم بالسكون في ديار الكفار ؟ .