ثم قال تعالى : (
يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ) . واعلم أنا بينا في الآية المتقدمة أن
عمدة أمر الشيطان إنما هو بإلقاء الأماني في القلب ، وأما تبتيك الآذان وتغيير الخلقة فذاك من نتائج إلقاء الأماني في القلب ، ومن آثاره ، فلا جرم نبه الله تعالى على ما هو العمدة في دفع تلك الأماني ، وهو أن تلك الأماني لا تفيد إلا الغرور ، والغرور : هو أن يظن الإنسان بالشيء أنه نافع ولذيذ ، ثم يتبين اشتماله على أعظم الآلام والمضار ، وجميع أحوال الدنيا كذلك ، والعاقل يجب عليه أن لا يلتفت إلى شيء منها ، ومثال هذا أن الشيطان يلقي في قلب الإنسان أنه سيطول عمره ، وينال من الدنيا أمله ومقصوده ، ويستولي على أعدائه ، ويقع في قلبه أن الدنيا دول ، فربما تيسرت له كما تيسرت لغيره ، إلا أن كل ذلك غرور فإنه ربما لم يطل عمره ، وإن طال فربما لم يجد مطلوبه ، وإن طال عمره ووجد مطلوبه على أحسن الوجوه فإنه لا بد وأن يكون عند الموت في أعظم أنواع الغم والحسرة ؛ فإن المطلوب كلما كان ألذ وأشهى ، وكان الإلف معه أدوم وأبقى كانت مفارقته أشد إيلاما ، وأعظم تأثيرا في حصول الغم والحسرة ، فظهر أن هذه الآية منبهة على ما هو العمدة والقاعدة في هذا الباب .
[ ص: 41 ] وفي الآية وجه آخر : وهو أن الشيطان يعدهم بأنه لا قيامة ولا جزاء فاجتهدوا في استيفاء اللذات الدنيوية .
ثم قال تعالى : (
أولئك مأواهم جهنم ) واعلم أنا ذكرنا أن الغرور عبارة عن الحالة التي تحصل للإنسان عند وجدان ما يستحسن ظاهره إلا أنه يعظم تأذيه عند انكشاف الحال فيه ، والاستغراق في طيبات الدنيا ،
والانهماك في معاصي الله سبحانه وإن كان في الحال لذيذا إلا أن عاقبته عذاب جهنم ، وسخط الله ، والبعد عن رحمته ، فكان هذا المعنى مما يقوي ما تقدم ذكره من أنه ليس إلا الغرور .
ثم قال تعالى : (
ولا يجدون عنها محيصا ) المحيص : المعدل والمفر .
قال
الواحدي -رحمه الله- : هذه الآية تحتمل وجهين :
أحدهما : أنه لا بد لهم من ورودها .
الثاني : التخليد الذي هو نصيب الكفار ، وهذا غير بعيد ؛ لأن الضمير في قوله : (
ولا يجدون ) عائد إلى الذين تقدم ذكرهم ، وهم الذين قال الشيطان : لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا . والأظهر أن الذي يكون نصيبا للشيطان هم الكفار .
ولما ذكر الله الوعيد أردفه بالوعد فقال : (
والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا ) .
واعلم أنه تعالى في أكثر آيات الوعد ذكر : (
خالدين فيها أبدا ) ولو كان الخلود يفيد التأبيد والدوام للزم التكرار وهو خلاف الأصل ، فعلمنا أن الخلود عبارة عن طول المكث لا عن الدوام ، وأما
في آيات الوعيد فإنه يذكر الخلود ولم يذكر التأبيد إلا في حق الكفار ، وذلك يدل على أن
عقاب الفساق منقطع .
ثم قال : (
وعد الله حقا ) قال صاحب "الكشاف" : هما مصدران :
الأول : مؤكد لنفسه ، كأنه قال : وعد وعدا ، و" حقا " مصدر مؤكد لغيره ، أي : حق ذلك حقا .
ثم قال : (
ومن أصدق من الله قيلا ) وهو توكيد ثالث بليغ .
وفائدة هذه التوكيدات معارضة ما ذكره الشيطان لأتباعه من المواعيد الكاذبة والأماني الباطلة ، والتنبيه على أن
وعد الله أولى بالقبول وأحق بالتصديق من قول الشيطان الذي ليس أحد أكذب منه ، وقرأ
حمزة والكسائي : ( أصدق من الله قيلا ) بإشمام الصاد الزاي ، وكذلك كل صاد ساكنة بعدها دال في القرآن ، نحو : ( قصد السبيل ) [النحل : 9] ( فاصدع بما تؤمر ) [الحجر : 94] والقيل : مصدر قال قولا وقيلا ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12758ابن السكيت : فالقيل والقال : اسمان لا مصدران .