(
وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين )
قوله تعالى : ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ) .
اعلم أن في الآية مسائل :
[ ص: 35 ] المسألة الأولى : في هذا الموضع إشكال وهو أن الله تعالى حكى عن
اليهود أنهم قالوا ذلك ، ولا شك في أن الله تعالى صادق في كل ما أخبر عنه ، ونرى
اليهود مطبقين متفقين على أنا لا نقول ذلك ولا نعتقده ألبتة ، وأيضا المذهب الذي يحكى عن العقلاء لا بد وأن يكون معلوم البطلان بضرورة العقل ، والقول بأن يد الله مغلولة قول باطل ببديهة العقل ; لأن قولنا ( الله ) اسم لموجود قديم ، وقادر على خلق العالم وإيجاده وتكوينه ، وهذا الموجود يمتنع أن تكون يده مغلولة وقدرته مقيدة وقاصرة ، وإلا فكيف يمكنه مع القدرة الناقصة حفظ العالم وتدبيره .
إذا ثبت هذا فنقول : حصل الإشكال الشديد في كيفية تصحيح هذا النقل وهذه الرواية ، فنقول : عندنا فيه وجوه :
الأول : لعل القوم إنما قالوا هذا على سبيل الإلزام ، فإنهم لما سمعوا قوله تعالى : (
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) [البقرة : 245] قالوا : لو احتاج إلى القرض لكان فقيرا عاجزا ، فلما حكموا بأن الإله الذي يستقرض شيئا من عباده فقير مغلول اليدين ، لا جرم حكى الله عنهم هذا الكلام .
الثاني : لعل القوم لما رأوا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في غاية الشدة والفقر والحاجة قالوا على سبيل السخرية والاستهزاء : إن إله
محمد فقير مغلول اليد ، فلما قالوا ذلك حكى الله عنهم هذا الكلام .
الثالث : قال المفسرون :
اليهود كانوا أكثر الناس مالا وثروة ، فلما بعث الله
محمدا وكذبوا به ضيق الله عليهم المعيشة ، فعند ذلك قالت
اليهود : يد الله مغلولة ، أي مقبوضة عن العطاء على جهة الصفة بالبخل ، والجاهل إذا وقع في البلاء والشدة والمحنة يقول مثل هذه الألفاظ .
الرابع : لعله كان فيهم من كان على مذهب الفلسفة ، وهو أنه تعالى موجب لذاته ، وأن حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلا على نهج واحد وسنن واحد ، وأنه تعالى غير قادر على إحداث الحوادث على غير الوجوه التي عليها تقع ، فعبروا عن عدم الاقتدار على التغيير والتبديل بغل اليد .
الخامس : قال بعضهم : المراد هو
قول اليهود : إن الله لا يعذبنا إلا بقدر الأيام التي عبدنا العجل فيها ، إلا أنهم عبروا عن كونه تعالى غير معذب لهم إلا في هذا القدر من الزمان بهذه العبارة الفاسدة ، واستوجبوا اللعن بسبب فساد العبارة وعدم رعاية الأدب ، وهذا قول
الحسن فثبت أن هذه الحكاية صحيحة على كل هذه الوجوه ، والله أعلم .
المسألة الثانية : غل اليد وبسطها مجاز مشهور عن البخل والجود ، ومنه قوله تعالى : (
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) قالوا : والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال لا سيما لدفع المال ولإنفاقه ، فأطلقوا اسم السبب على المسبب ، وأسندوا الجود والبخل إلى اليد والبنان والكف والأنامل ، فقيل للجواد : فياض الكف مبسوط اليد ، وبسط البنان تره الأنامل ، ويقال للبخيل : كز الأصابع مقبوض الكف جعد الأنامل .
فإن قيل : فلما كان قوله : (
يد الله مغلولة ) المراد منه البخل وجب أن يكون قوله : (
غلت أيديهم ) المراد منه أيضا البخل لتصح المطابقة ،
والبخل من الصفات المذمومة التي نهى الله تعالى عنها ، فكيف يجوز أن يدعو عليهم بذلك ؟
قلنا : قوله : (
يد الله مغلولة ) عبارة عن عدم المكنة من البذل والإعطاء ، ثم إن عدم المكنة من الإعطاء تارة يكون لأجل البخل ، وتارة يكون لأجل الفقر ، وتارة يكون لأجل العجز ، فكذلك قوله : (
غلت أيديهم ) دعاء
[ ص: 36 ] عليهم بعدم القدرة والمكنة ; سواء حصل ذلك بسبب العجز أو الفقر أو البخل ، وعلى هذا التقدير فإنه يزول الإشكال .
المسألة الثالثة : قوله : (
غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ) فيه وجهان :
الأول : أنه دعاء عليهم ، والمعنى أنه تعالى يعلمنا أن ندعو عليهم بهذا الدعاء كما علمنا الاستثناء في قوله : (
لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ) [الفتح : 27] وكما علمنا الدعاء على المنافقين في قوله : (
فزادهم الله مرضا ) [البقرة : 10] وعلى
أبي لهب في قوله : (
تبت يدا أبي لهب ) [المسد : 1] .
الثاني : أنه إخبار ، قال
الحسن : غلت أيديهم في نار جهنم على الحقيقة ، أي شدت إلى أعناقهم جزاء لهم على هذا القول .
فإن قيل : فإذا كان هذا الغل إنما حكم به جزاء لهم على هذا القول ، فكان ينبغي أن يقال : فغلت أيديهم .
قلنا : حذف العطف وإن كان مضمرا إلا أنه حذف لفائدة ، وهي أنه لما حذف كان قوله : (
غلت أيديهم ) كالكلام المبتدأ به ، وكون الكلام مبتدأ به يزيده قوة ووثاقة ; لأن الابتداء بالشيء يدل على شدة الاهتمام به وقوة الاعتناء بتقريره ، ونظير هذا الموضع في حذف فاء التعقيب قوله تعالى : (
وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا ) [البقرة : 67] ، ولم يقل : فقالوا أتتخذنا هزوا ، وأما قوله : (
ولعنوا بما قالوا ) قال
الحسن : عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار .