صفحة جزء
( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون )

قوله تعالى : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون )

قد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة ، وبقي ههنا مسائل : [ ص: 44 ] المسألة الأولى : ظاهر الإعراب يقتضي أن يقال : والصابئين ، وهكذا قرأ أبي بن كعب ، وابن مسعود ، وابن كثير ، وللنحويين في علة القراءة المشهورة وجوه :

الأول : وهو مذهب الخليل وسيبويه ارتفع الصابئون بالابتداء على نية التأخير ، كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون كذلك ، فحذف خبره ، والفائدة في عدم عطفهم على من قبلهم هو أن الصابئين أشد الفرق المذكورين في هذه الآية ضلالا ، فكأنه قيل : كل هؤلاء الفرق إن آمنوا بالعمل الصالح قبل الله توبتهم وأنزل ذنبهم ، حتى الصابئون فإنهم إن آمنوا كانوا أيضا كذلك .

الوجه الثاني : وهو قول الفراء أن كلمة ( إن ) ضعيفة في العمل ههنا ، وبيانه من وجوه :

الأول : أن كلمة ( إن ) إنما تعمل لكونها مشابهة للفعل ، ومعلوم أن المشابهة بين الفعل وبين الحرف ضعيفة .

الثاني : أنها وإن كانت تعمل لكن إنما تعمل في الاسم فقط ، أما الخبر فإنه بقي مرفوعا بكونه خبر المبتدأ ، وليس لهذا الحرف في رفع الخبر تأثير ، وهذا مذهب الكوفيين ، وقد بيناه بالدليل في سورة البقرة في تفسير قوله : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم ) [البقرة : 6] .

الثالث : أنها إنما يظهر أثرها في بعض الأسماء ، أما الأسماء التي لا يتغير حالها عند اختلاف العوامل فلا يظهر أثر هذا الحرف فيها ، والأمر ههنا كذلك ; لأن الاسم ههنا هو قوله : ( الذين ) وهذه الكلمة لا يظهر فيها أثر الرفع والنصب والخفض .

إذا ثبت هذا فنقول : إنه إذا كان اسم ( إن ) بحيث لا يظهر فيه أثر الإعراب ، فالذي يعطف عليه يجوز النصب على إعمال هذا الحرف ، والرفع على إسقاط عمله ، فلا يجوز أن يقال : إن زيدا وعمرو قائمان ; لأن زيدا ظهر فيه أثر الإعراب ، لكن إنما يجوز أن يقال : إن هؤلاء وإخوتك يكرموننا ، وإن هذا نفسه شجاع ، وإن قطام وهند عندنا ، والسبب في جواز ذلك أن كلمة إن كانت في الأصل ضعيفة العمل ، وإذا صارت بحيث لا يظهر لها أثر في اسمها صارت في غاية الضعف ، فجاز الرفع بمقتضى الحكم الثابت قبل دخول هذا الحرف عليه ، وهو كونه مبتدأ ، فهذا تقرير قول الفراء ، وهو مذهب حسن وأولى من مذهب البصريين ; لأن الذي قالوه يقتضي أن كلام الله على الترتيب الذي ورد عليه ليس بصحيح ، وإنما تحصل الصحة عند تفكيك هذا النظم ، وأما على قول الفراء فلا حاجة إليه ، فكان ذلك أولى .

المسألة الثانية : قال بعض النحويين : لا شك أن كلمة " إن " من العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر ، وكون المبتدأ مبتدأ والخبر خبرا وصف حقيقي ثابت حال دخول هذا الحرف وقبله ، وكونه مبتدأ يقتضي الرفع .

إذا ثبت هذا فنقول : المعطوف على اسم " إن " يجوز انتصابه بناء على إعمال هذا الحرف ، ويجوز ارتفاعه أيضا لكونه في الحقيقة مبتدأ محدثا عنه ومخبرا عنه .

طعن صاحب الكشاف فيه ، وقال : إنما يجوز ارتفاعه على العطف على محل " إن واسمها " بعد ذكر الخبر ، وتقول : إن زيدا منطلق وعمرا ، وعمرو ، بالنصب على اللفظ ، والرفع على موضع " إن " واسمها ; لأن الخبر قد تقدم ، وأما قبل ذلك الخبر فهو غير جائز ; لأنا لو رفعناه على محل " إن واسمها " لكان العامل في خبرهما هو المبتدأ ، ولو كان كذلك لكان العامل في خبرهما هو الابتداء ; لأن الابتداء هو المؤثر في المبتدأ والخبر معا ، وحينئذ يلزم الخبر المتأخر أن يكون مرفوعا بحرف " إن " وبمعنى الابتداء فيجتمع على المرفوع [ ص: 45 ] الواحد رافعان مختلفان ، وإنه محال .

واعلم أن هذا الكلام ضعيف ، وبيانه من وجوه :

الأول : أن هذه الأشياء التي تسميها النحويون : رافعة وناصبة ليس معناها أنها كذلك لذواتها أو لأعيانها ، فإن هذا لا يقوله عاقل ، بل المراد أنها معرفات بحسب الوضع والاصطلاح لهذه الحركات ، واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد غير محال ألا ترى أن جميع أجزاء المحدثات دالة على وجود الله تعالى .

والوجه الثاني في ضعف هذا الجواب : أنه بناه على أن كلمة " إن " مؤثرة في نصب الاسم ورفع الخبر ، والكوفيون ينكرون ذلك ويقولون : لا تأثير لهذا الحرف في رفع الخبر ألبتة ، وقد أحكمنا هذه المسألة في سورة البقرة .

والوجه الثالث : وهو أن الأشياء الكثيرة إذا عطف بعضها على البعض فالخبر الواحد لا يكون خبرا عنها ; لأن الخبر عن الشيء عبارة عن تعريف حاله وبيان صفته ، ومن المحال أن يكون حال الشيء وصفته عين حال الآخر وصفته لامتناع قيام الصفة الواحدة بالذوات المختلفة .

وإذا ثبت هذا ظهر أن الخبر وإن كان في اللفظ واحدا إلا أنه في التقدير متعدد ، وهو لا محالة موجود بحسب التقدير والنية ، وإذا حصل التعدد في الحقيقة لم يمتنع كون البعض مرتفعا بالحرف والبعض بالابتداء ، وبهذا التقدير لم يلزم اجتماع الرافعين على مرفوع واحد ، والذي يحقق ذلك أنه سلم أن بعد ذكر الاسم وخبره جاز الرفع والنصب في المعطوف عليه ، ولا شك أن هذا المعطوف إنما جاز ذلك فيه ; لأنا نضمر له خبرا ، وحكمنا بأن ذلك الخبر المضمر مرتفع بالابتداء .

وإذا ثبت هذا فنقول : إن قبل ذكر الخبر إذا عطفنا اسما على اسم ، حكم صريح العقل أنه لا بد من الحكم بتقدير الخبر ، وذلك إنما يحصل بإضمار الأخبار الكثيرة ، وعلى هذا التقدير يسقط ما ذكر من الالتزام ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية