(
جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم ) .
قوله تعالى : (
جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ) .
اعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها هو أن الله تعالى حرم في الآية المتقدمة الاصطياد على المحرم ، فبين أن الحرم كما أنه سبب لأمن الوحش والطير ، فكذلك هو سبب لأمن الناس عن الآفات والمخافات ، وسبب لحصول الخيرات والسعادات في الدنيا والآخرة ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ
ابن عامر ( قيما ) بغير ألف ، ومعناه المبالغة في كونه قائما بإصلاح مهمات الناس كقوله تعالى : (
دينا قيما ) [الأنعام : 161] والباقون بالألف ، وقد استقصينا ذلك في سورة النساء .
المسألة الثانية : ( جعل ) فيه قولان ، الأول : أنه بين وحكم .
الثاني : أنه صير ، فالأول بالأمر والتعريف .
والثاني بخلق الدواعي في قلوب الناس لتعظيمه والتقرب إليه .
المسألة الثالثة :
سميت الكعبة كعبة لارتفاعها ، يقال للجارية إذا نتأ ثديها وخرج : كاعب وكعاب ، وكعب الإنسان يسمى كعبا لنتوه من الساق ،
فالكعبة لما ارتفع ذكرها في الدنيا واشتهر أمرها في العالم سميت بهذا الاسم ، ولذلك فإنهم يقولون لمن عظم أمره : فلان علا كعبه .
المسألة الرابعة : قوله : (
قياما للناس ) أصله (قوام) لأنه من قام يقوم ، وهو ما يستقيم به الأمر ويصلح ، ثم ذكروا هاهنا في كون
الكعبة سببا لقوام مصالح الناس وجوها :
الأول : أن
أهل مكة كانوا محتاجين إلى حضور أهل الآفاق عندهم ليشتروا منهم ما يحتاجون إليه طول السنة ، فإن
مكة بلدة ضيقة لا ضرع فيها ولا زرع ، وقلما يوجد فيها ما يحتاجون إليه ، فالله تعالى جعل
الكعبة معظمة في القلوب حتى صار أهل الدنيا راغبين في زيارتها ، فيسافرون إليها من كل فج عميق لأجل التجارة ويأتون بجميع المطالب والمشتهيات ، فصار ذلك سببا لإسباغ النعم على
أهل مكة .
الثاني : أن العرب كانوا يتقاتلون ويغيرون إلا في الحرم ، فكان
أهل الحرم آمنين على أنفسهم وعلى أموالهم حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه في
الحرم لم يتعرض له ، ولو جنى الرجل أعظم الجنايات ثم التجأ إلى
الحرم لم يتعرض له ، ولهذا قال تعالى : (
أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) [العنكبوت : 67] الثالث : أن
أهل مكة صاروا بسبب
الكعبة أهل الله وخاصته وسادة الخلق إلى يوم القيامة ، وكل أحد يتقرب إليهم ويعظمهم .
الرابع : أنه تعالى جعل
الكعبة قواما للناس في دينهم بسبب ما جعل فيها من المناسك العظيمة والطاعات الشريفة ، وجعل تلك المناسك سببا لحط الخطيئات ورفع الدرجات وكثرة الكرامات .
[ ص: 84 ] واعلم أنه لا يبعد حمل الآية على جميع هذه الوجوه ، وذلك لأن قوام المعيشة إما بكثرة المنافع وهو الوجه الأول الذي ذكرناه ، وإما بدفع المضار وهو الوجه الثاني ، وإما بحصول الجاه والرياسة وهو الوجه الثالث ، وإما بحصول الدين وهو الوجه الرابع ، فلما كانت
الكعبة سببا لحصول هذه الأقسام الأربعة ، وثبت أن قوام المعيشة ليس إلا بهذه الأربعة ، ثبت أن
الكعبة سبب لقوام الناس .
المسألة الخامسة : المراد بقوله : (
قياما للناس ) أي لبعض الناس وهم العرب ، وإنما حسن هذا المجاز ؛ لأن أهل كل بلد إذا قالوا : الناس فعلوا كذا وصنعوا كذا ، فإنهم لا يريدون إلا أهل بلدتهم ، فلهذا السبب خوطبوا بهذا الخطاب على وفق عادتهم .
المسألة السادسة : اعلم أن الآية دالة على أنه تعالى جعل أربعة أشياء سببا لقيام الناس وقوامهم ، الأول :
الكعبة ، وقد بينا معنى كونها سببا لقيام الناس ، وأما الثاني : فهو
الشهر الحرام ، ومعنى كونه سببا لقيام الناس هو أن العرب كان يقتل بعضهم بعضا في سائر الأشهر ، ويغير بعضهم على بعض ، فإذا دخل الشهر الحرام زال الخوف وقدروا على الأسفار والتجارات وصاروا آمنين على أنفسهم وأموالهم ، وكانوا يحصلون في الشهر الحرام من الأقوات ما كان يكفيهم طول السنة ، فلولا حرمة الشهر الحرام لهلكوا وتفانوا من الجوع والشدة ، فكان الشهر الحرام سببا لقوام معيشتهم في الدنيا أيضا ، فهو سبب لاكتساب الثواب العظيم بسبب إقامة مناسك الحج .
واعلم أنه تعالى أراد بالشهر الحرام الأشهر الحرم الأربعة ، إلا أنه عبر عنها بلفظ الواحد ؛ لأنه ذهب به مذهب الجنس .
وأما الثالث : فهو
الهدي ، وهو إنما كان سببا لقيام الناس ؛ لأن الهدي ما يهدى إلى
البيت ويذبح هناك ويفرق لحمه على الفقراء ، فيكون ذلك نسكا للمهدي وقواما لمعيشة الفقراء .
وأما الرابع فهو
القلائد ، والوجه في كونها قياما للناس أن من قصد
البيت في الشهر الحرام لم يتعرض له أحد ، ومن قصده في غير الشهر الحرام ومعه هدي ، وقد قلده وقلد نفسه من لحاء شجر الحرم ، لم يتعرض له أحد ، حتى إن الواحد من العرب يلقى الهدي مقلدا ويموت من الجوع ، فلا يتعرض له البتة ، ولم يتعرض لها صاحبها أيضا ، وكل ذلك إنما كان لأن الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيم
البيت الحرام ، فكل من قصده أو تقرب إليه صار آمنا من جميع الآفات والمخافات ، فلما ذكر الله تعالى أنه جعل
الكعبة البيت الحرام قياما للناس ذكر بعده هذه الثلاثة ، وهي الشهر الحرام والهدي والقلائد ؛ لأن هذه الثلاثة إنما صارت سببا لقوام المعيشة لانتسابها إلى
البيت الحرام ، فكان ذلك دليلا على عظمة هذا
البيت وغاية شرفه .