الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والمعنى : أنه تعالى لما علم في الأزل أن مقتضى طباع العرب الحرص الشديد على القتل والغارة ، وعلم أنه لو دامت بهم هذه الحالة لعجزوا عن تحصيل ما يحتاجون إليه من منافع المعيشة ، ولأدى ذلك إلى فنائهم وانقطاعهم بالكلية ، دبر في ذلك تدبيرا لطيفا ، وهو أنه ألقى في قلوبهم اعتقادا قويا في تعظيم البيت الحرام وتعظيم مناسكه ، فصار ذلك سببا لحصول الأمن في البلد الحرام وفي الشهر الحرام ، فلما حصل الأمن في هذا المكان وفي هذا الزمان قدروا على تحصيل ما يحتاجون إليه في هذا الزمان وفي هذا المكان ، فاستقامت مصالح معاشهم ، ومن المعلوم أن مثل هذا التدبير لا يمكن إلا إذا كان تعالى في الأزل [ ص: 85 ] عالما بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات حتى يعلم أن الشر غالب على طباعهم ، وأن ذلك يفضي بهم إلى الفناء وانقطاع النسل ، وأنه لا يمكن دفع ذلك إلا بهذا الطريق اللطيف ، وهو إلقاء تعظيم الكعبة في قلوبهم حتى يصير ذلك سببا لحصول الأمان في بعض الأمكنة وفي بعض الأزمنة ، فحينئذ تستقيم مصالح معاشهم في ذلك المكان وفي ذلك الزمان ، وهذا هو بعينه الدليل الذي تمسك به المتكلمون على كونه تعالى عالما ، فإنهم يقولون: إن أفعاله محكمة متقنة مطابقة للمصالح ، وكل من كان كذلك كان عالما ، ومن المعلوم أن إلقاء تعظيم الكعبة في قلوب العرب لأجل أن يصير ذلك سببا لحصول الأمن في بعض الأمكنة وفي بعض الأزمنة ، ليصير ذلك سبب اقتدارهم على تحصيل مصالح المعيشة ، فعل في غاية الإتقان والإحكام ، فيكون ذلك دليلا قاهرا وبرهانا باهرا على أن صانع العالم سبحانه وتعالى عالم بجميع المعلومات ، فلا جرم قال : ( ذلك لتعلموا ) أي ذلك التدبير اللطيف لأجل أن تتفكروا فيه ، فتعلموا أنه تدبير لطيف وفعل محكم متقن ، فتعلموا ( أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ) ثم إذا عرفتم ذلك عرفتم أن علمه سبحانه وتعالى صفة قديمة أزلية واجبة الوجود ، وما كان كذلك امتنع أن يكون مخصوصا بالبعض دون البعض ، فوجب كونه متعلقا بجميع المعلومات ، وإذا كان كذلك كان الله سبحانه عالما بجميع المعلومات ، فلذلك قال : ( وأن الله بكل شيء عليم ) فما أحسن هذا الترتيب في هذا التقدير ، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية