[ ص: 99 ] (
فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين ) .
ثم قال تعالى : (
فإن عثر على أنهما استحقا إثما ) قال
الليث رحمه الله : عثر الرجل يعثر عثورا : إذا هجم على أمر لم يهجم عليه غيره ، وأعثرت فلانا على أمري ؛ أي أطلعته عليه ، وعثر الرجل يعثر عثرة : إذا وقع على شيء ، قال أهل اللغة :
وأصل عثر بمعنى اطلع من العثرة التي هي الوقوع ، وذلك لأن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه ، فلما عثر به اطلع عليه ونظر ما هو ، فقيل لكل من اطلع على أمر كان خفيا عليه : قد عثر عليه ، وأعثر غيره : إذا أطلعه عليه ، ومنه قوله تعالى : (
وكذلك أعثرنا عليهم ) [الكهف : 21] أي أطلعنا ، ومعنى الآية فإن حصل العثور والوقوف على أنهما أتيا بخيانة واستحقا الإثم بسبب اليمين الكاذبة .
ثم قال تعالى : (
فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن معنى الآية : فإن
عثر بعدما حلف الوصيان على أنهما استحقا إثما ؛ أي حنثا في اليمين بكذب في قول أو خيانة في مال ، قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت فيحلفان بالله لقد ظهرنا على خيانة الذميين وكذبهما وتبديلهما وما اعتدينا في ذلك وما كذبنا . وروي أنه لما نزلت الآية الأولى
صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر ودعا بتميم وعدي فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنه لم يوجد منا خيانة في هذا المال ، ولما حلفا خلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبيلهما وكتما الإناء مدة ، ثم ظهر ، واختلفوا فقيل : وجد بمكة ، وقيل : لما طالت المدة أظهرا الإناء فبلغ ذلك بني سهم فطالبوهما ، فقالا : كنا قد اشتريناه منه ، فقالوا : ألم نقل لكم : هل باع صاحبنا شيئا ، فقلتما لا ؟ فقالا : لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نعثر فكتمنا ، فرفعوا القصة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى : ( فإن عثر ) الآية ، فقام nindex.php?page=showalam&ids=59عمرو بن العاص والمطلب بن أبي رفاعة السهميان فحلفا بالله بعد العصر فدفع الرسول - صلى الله عليه وسلم - الإناء إليهما وإلى أولياء الميت .
وكان nindex.php?page=showalam&ids=155تميم الداري يقول بعدما أسلم : صدق الله ورسوله أنا أخذت الإناء فأتوب إلى الله تعالى . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه بقيت تلك الواقعة مخفية إلى أن أسلم
nindex.php?page=showalam&ids=155تميم الداري ، فلما أسلم أخبر بذلك وقال : حلفت كاذبا ، وأنا وصاحبي بعنا الإناء بألف وقسمنا الثمن ، ثم دفع خمسمائة درهم من نفسه ونزع من صاحبه خمسمائة أخرى ودفع الألف إلى موالي الميت .
المسألة الثانية : قوله : (
فآخران يقومان مقامهما ) أي مقام الشاهدين اللذين هما من غير ملتهما ، وقوله : (
من الذين استحق عليهم الأوليان ) المراد به موالي الميت ، وقد أكثر الناس في أنه لم وصف موالي الميت بهذا الوصف ، والأصح عندي فيه وجه واحد ، وهو أنهم إنما وصفوا بذلك لأنه لما أخذ مالهم فقد استحق
[ ص: 100 ] عليهم مالهم ، فإن من أخذ مال غيره فقد حاول أن يكون تعلقه بذلك المال مستعليا على تعلق مالكه به ، فصح أن يوصف المالك بأنه قد استحق عليه ذلك المال .
المسألة الثالثة : أما قوله : (
الأوليان ) ففيه وجوه :
الأول : أن يكون خبر المبتدأ محذوفا ، والتقدير : هما الأوليان ، وذلك لأنه لما قال : (
فآخران يقومان مقامهما ) فكأنه قيل : ومن هما ؟ فقيل : الأوليان .
والثاني : أن يكون بدلا من الضمير الذي في يقومان ، والتقدير : فيقوم الأوليان .
والثالث : أجاز
الأخفش أن يكون قوله : (
الأوليان ) صفة لقوله : (
فآخران ) وذلك لأن
النكرة إذا تقدم ذكرها ثم أعيد عليها الذكر صارت معرفة ، كقوله تعالى : (
كمشكاة فيها مصباح ) [النور : 35] فمصباح نكرة ، ثم قال : (
المصباح ) ثم قال : (
في زجاجة ) ثم قال : (
الزجاجة ) ، وهذا مثل قولك : رأيت رجلا ، ثم يقول إنسان : من الرجل ؟ فصار بالعود إلى ذكره معرفة .
الرابع : يجوز أن يكون قوله : (
الأوليان ) بدلا من قوله : (
آخران ) وإبدال المعرفة من النكرة كثير .
المسألة الرابعة : إنما وصفهما بأنهما أوليان لوجهين :
الأول : معنى الأوليان الأقربان إلى الميت .
الثاني : يجوز أن يكون المعنى الأوليان باليمين ، والسبب فيه أن الوصيين قد ادعيا أن الميت باع الإناء الفضة فانتقل اليمين إلى موالي الميت ؛ لأن الوصيين قد ادعيا أن مورثهما باع الإناء وهما أنكرا ذلك ، فكان اليمين حقا لهما ، وهذا كما لو أن إنسانا
أقر لآخر بدين ثم ادعى أنه قضاه ، حكم برد اليمين إلى الذي ادعى الدين أولا ؛ لأنه صار مدعى عليه أنه قد استوفاه .
المسألة الخامسة : القراءة المشهورة للجمهور (
استحق ) بضم التاء وكسر الحاء ، والأوليان تثنية الأولى ، وقد ذكرنا وجهه ، وقراءة
حمزة وعاصم في رواية
أبي بكر (الأولين) بالجمع ، وهو نعت لجميع الورثة المذكورين في قوله : (
من الذين استحق عليهم ) وتقديره : من الأولين الذين استحق عليهم مالهم ، وإنما قيل لهم الأولين من حيث كانوا أولين في الذكر ، ألا ترى أنه قد تقدم (
ياأيها الذين آمنوا شهادة بينكم ) وكذلك (
اثنان ذوا عدل ) ذكرا في اللفظ قبل قوله : (
أو آخران من غيركم ) وقرأ
حفص وحده بفتح التاء والحاء ، (
الأوليان ) على التثنية ، ووجهه أن الوصيين اللذين ظهرت خيانتهما هما أولى من غيرهما بسبب أن الميت عينهما للوصاية ، ولما خانا في مال الورثة صح أن يقال : إن الورثة قد استحق عليهم الأوليان ، أي خان في مالهم الأوليان ، وقرأ
الحسن (الأولان) ووجهه ظاهر مما تقدم .