المسألة الرابعة : اعلم أن هذه الكلمة مذكورة في أول سور خمسة . أولها : الفاتحة ، فقال : (
الحمد لله رب العالمين ) [الفاتحة : 2] .
وثانيها : في أول هذه السورة ، فقال : (
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ) والأول أعم لأن العالم عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى ، فقوله : (
الحمد لله رب العالمين ) يدخل فيه كل موجود سوى الله تعالى ، أما قوله : (
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ) لا يدخل فيه إلا خلق السماوات والأرض والظلمات والنور ، ولا يدخل فيه سائر الكائنات والمبدعات ، فكان التحميد المذكور في أول هذه السورة كأنه قسم من الأقسام الداخلة تحت التحميد المذكور في سورة الفاتحة وتفصيل لتلك الجملة .
وثالثها : سورة الكهف ، فقال : (
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ) [الكهف : 1] وذلك أيضا تحميد مخصوص بنوع خاص من النعمة وهو نعمة العلم والمعرفة والهداية والقرآن ، وبالجملة
النعم الحاصلة بواسطة بعثة الرسل .
ورابعها : سورة سبأ وهي قوله : (
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ) [سبأ : 1] وهو أيضا قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله : (
الحمد لله رب العالمين ) .
وخامسها : سورة فاطر ، فقال : (
الحمد لله فاطر السماوات والأرض ) [فاطر : 1] وظاهر أيضا أنه قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله : (
الحمد لله رب العالمين ) فظهر أن الكلام الكلي التام هو التحميد المذكور في أول الفاتحة وهو قوله : (
الحمد لله رب العالمين ) وذلك لأن كل موجود فهو إما واجب الوجود لذاته ، وإما ممكن الوجود لذاته .
وواجب الوجود لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى وما سواه ممكن وكل ممكن فلا يمكن دخوله في الوجود إلا بإيجاد الله تعالى وتكوينه والوجود نعمة فالإيجاد إنعام وتربية ، فلهذا السبب قال : (
الحمد لله رب العالمين )
وأنه تعالى المربي لكل ما سواه والمحسن إلى كل ما سواه ، فذلك الكلام هو الكلام الكلي الوافي
[ ص: 121 ] بالمقصود . أما التحميدات المذكورة في أوائل هذه السور فكأن كل واحد منها قسم من أقسام ذلك التحميد ونوع من أنواعه .
فإن قيل : ما
الفرق بين الخالق وبين الفاطر والرب ؟ وأيضا لم قال هاهنا : (
خلق السماوات والأرض ) بصيغة فعل الماضي ؟ وقال في سورة فاطر : (
الحمد لله فاطر السماوات والأرض ) بصيغة اسم الفاعل ؟
فنقول في الجواب عن الأول : الخلق عبارة عن التقدير ، وهو في حق الحق سبحانه عبارة عن علمه النافذ في جميع الكليات والجزئيات الواصل إلى جميع ذوات الكائنات والممكنات ، وأما كونه فاطرا فهو عبارة عن الإيجاد والإبداع ،
فكونه تعالى خالقا إشارة إلى صفة العلم ، وكونه فاطرا إشارة إلى صفة القدرة ، وكونه تعالى ربا ومربيا مشتمل على الأمرين ، فكان ذلك أكمل .
والجواب عن الثاني : أن الخلق عبارة عن التقدير وهو في حق الله تعالى عبارة عن علمه بالمعلومات ، والعلم بالشيء يصح تقدمه على وجود المعلوم ، ألا ترى أنه يمكننا أن نعلم الشيء قبل دخوله في الوجود ، أما إيجاد الشيء فإنه لا يحصل إلا حال وجود الأثر بناء على مذهبنا أن القدرة إنما تؤثر في وجود المقدور حال وجود المقدور ، فلهذا السبب قال : (
خلق السماوات ) والمراد أنه كان عالما بها قبل وجودها ، وقال : (
فاطر السماوات والأرض ) [فاطر : 1] والمراد أنه تعالى إنما يكون فاطرا لها وموجدا لها عند وجودها .