(
قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون )
قوله تعالى : (
قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون )
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذا نوع آخر
من دلائل التوحيد وهو ممزوج بنوع من التخويف ، فبين كونه تعالى قادرا على إيصال العذاب إليهم من هذه الطرق المختلفة ، وأما إرسال العذاب عليهم تارة من فوقهم ، وتارة من تحت أرجلهم ففيه قولان :
الأول : حمل اللفظ على حقيقته فنقول : العذاب النازل عليهم من فوق مثل المطر النازل عليهم من فوق كما في قصة
نوح ، والصاعقة النازلة عليهم من فوق ، وكذا الصيحة النازلة عليهم من فوق كما حصب قوم
لوط ، وكما رمي
أصحاب الفيل . وأما العذاب الذي ظهر من تحت أرجلهم ، فمثل الرجفة ، ومثل خسف
قارون . وقيل : هو حبس المطر والنبات ، وبالجملة فهذه الآية تتناول جميع أنواع العذاب التي يمكن نزولها من فوق ، وظهورها من أسفل .
القول الثاني : أن يحمل هذا اللفظ على مجازه . قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في رواية عن
عكرمة : عذابا من فوقكم أي من الأمراء ، ومن تحت أرجلكم من العبيد والسفلة . أما قوله : (
أو يلبسكم شيعا ) فاعلم أن الشيع جمع الشيعة ، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة والجمع شيع وأشياع . قال تعالى : (
كما فعل بأشياعهم من قبل ) [ سبأ : 54 ] وأصله من الشيع وهو التبع ، ومعنى الشيعة الذين يتبع بعضهم بعضا . قال
الزجاج : قوله : (
يلبسكم )
[ ص: 20 ] (
شيعا ) يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط اتفاق ، فيجعلكم فرقا ولا تكونون فرقة واحدة ، فإذا كنتم مختلفين قاتل بعضكم بعضا وهو معنى قوله : (
ويذيق بعضكم بأس بعض ) عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنهما - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012629لما نزل جبريل - عليه السلام - بهذه الآية شق ذلك على الرسول - عليه الصلاة والسلام - وقال : ما بقاء أمتي إن عوملوا بذلك فقال له جبريل : إنما أنا عبد مثلك فادع ربك لأمتك ، فسأل ربه أن لا يفعل بهم ذلك ، فقال جبريل : إن الله قد أمنهم من خصلتين أن لا يبعث عليهم عذابا من فوقهم كما بعثه على قوم نوح ولوط ، ولا من تحت أرجلهم كما خسف بقارون ، ولم يجرهم من أن يلبسهم شيعا بالأهواء المختلفة ، ويذيق بعضهم بأس بعض بالسيف . وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012630إن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة الناجية فرقة وفي رواية أخرى
كلهم في الجنة إلا الزنادقة
المسألة الثانية : ظاهر قوله : (
أو يلبسكم شيعا ) هو أنه تعالى يحملهم على الأهواء المختلفة والمذاهب المتنافية . وظاهر أن الحق منها ليس إلا الواحد ، وما سواه فهو باطل ، فهذا يقتضي أنه تعالى قد يحمل المكلف على الاعتقاد الباطل وقوله : (
ويذيق بعضكم بأس بعض ) لا شك أن أكثرها ظلم ومعصية ، فهذا يدل على
كونه تعالى خالقا للخير والشر . أجاب الخصم عنه بأن الآية تدل على أن الله تعالى قادر عليه ، وعندنا الله قادر على القبيح . إنما النزاع في أنه تعالى هل يفعل ذلك أم لا ؟
والجواب : أن وجه التمسك بالآية شيء آخر فإنه قال : (
هو القادر ) على ذلك وهذا يفيد الحصر ، فوجب أن يكون غير الله غير قادر على ذلك ، وهذا الاختلاف بين الناس حاصل ، وثبت بمقتضى الحصر المذكور أن لا يكون ذلك صادرا عن غير الله ، فوجب أن يكون صادرا عن الله وذلك يفيد المطلوب .
المسألة الثالثة : قالت المقلدة والحشوية : هذه الآية من أدل الدلائل على المنع من النظر والاستدلال ، وذلك لأن فتح تلك الأبواب يفيد
وقوع الاختلاف والمنازعة في الأديان وتفرق الخلق إلى المذاهب والأديان ، وذلك مذموم بحكم هذه الآية ، والمفضي إلى المذموم مذموم ، فوجب أن يكون فتح باب النظر والاستدلال في الدين مذموما . وجوابه سهل والله أعلم .
ثم قال تعالى في آخر الآية : (
انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ) قال القاضي : هذا يدل على أنه تعالى أراد بتصريف هذه الآيات وتقرير هذه البينات ، أن يفهم الكل تلك الدلائل ، ويفقه الكل تلك البينات . وجوابنا : بل ظاهر الآية يدل على أنه تعالى ما صرف هذه الآيات إلا لمن فقه وفهم ، فأما من أعرض وتمرد فهو تعالى ما صرف هذه الآيات لهم ، والله أعلم .