(
وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير )
قوله تعالى : (
وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير )
اعلم أنه تعالى لما بين في الآيات المتقدمة فساد طريقة عبدة الأصنام ، ذكر ههنا ما يدل على أنه
لا [ ص: 27 ] معبود إلا الله وحده وهو هذه الآية ، وذكر فيها أنواعا كثيرة من الدلائل :
أولها : قوله (
وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ) أما كونه خالقا للسماوات والأرض ، فقد شرحناه في قوله : (
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ) [الأنعام : 1] وأما أنه تعالى خلقهما بالحق فهو نظير لقوله تعالى في سورة آل عمران (
ربنا ما خلقت هذا باطلا ) [ آل عمران : 191 ] وقوله : (
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين ) [ الأنبياء : 16 ] (
ما خلقناهما إلا بالحق ) [ الدخان : 39 ] وفيه قولان :
القول الأول : وهو قول أهل السنة
أنه تعالى مالك لجميع المحدثات مالك لكل الكائنات ، وتصرف المالك في ملكه حسن وصواب على الإطلاق ، فكان ذلك التصرف حسنا على الإطلاق وحقا على الإطلاق .
والقول الثاني : وهو قول
المعتزلة أن معنى كونه حقا أنه واقع على وفق مصالح المكلفين مطابق لمنافعهم . قال القاضي : ويدخل في هذه الآية أنه خلق المكلف أولا حتى يمكنه الانتفاع بخلق السماوات والأرض ، ولحكماء الإسلام في هذا الباب طريقة أخرى ، وهي أنه يقال : أودع في هذه الأجرام العظيمة قوى وخواص يصدر بسببها عنها آثار وحركات مطابقة لمصالح هذا العالم ومنافعه .
وثانيها : قوله : (
ويوم يقول كن فيكون ) في تأويل هذه الآية قولان :
الأول : التقدير وهو الذي خلق السماوات والأرض وخلق يوم يقول : كن فيكون ، والمراد من هذا اليوم يوم القيامة ، والمعنى أنه تعالى هو الخالق للدنيا ولكل ما فيها من الأفلاك والطبائع والعناصر والخالق ليوم القيامة والبعث ولرد الأرواح إلى الأجساد على سبيل كن فيكون .
والوجه الثاني : في التأويل أن نقول قوله : ( الحق ) مبتدأ و (
ويوم يقول كن فيكون ) ظرف دال على الخبر ، والتقدير : قوله : ( الحق ) واقع (
ويوم يقول كن فيكون ) كقولك : يوم الجمعة القتال ، ومعناه القتال واقع يوم الجمعة . والمراد من كون قوله حقا في ذلك اليوم أنه سبحانه لا يقضي إلا بالحق والصدق ؛ لأن أقضيته منزهة عن الجور والعبث .
وثالثها : قوله : (
وله الملك يوم ينفخ في الصور ) فقوله : (
وله الملك ) يفيد الحصر ، والمعنى : أنه لا ملك في يوم ينفخ في الصور إلا الحق سبحانه وتعالى ، فالمراد بالكلام الثاني تقرير الحكم الحق المبرأ عن العبث والباطل ، والمراد بهذا الكلام تقرير القدرة التامة الكاملة التي لا دافع لها ولا معارض .
فإن قال قائل :
قول الله حق في كل وقت ، وقدرته كاملة في كل وقت ، فما الفائدة في تخصيص هذا اليوم بهذين الوصفين ؟
قلنا : لأن هذا اليوم هو اليوم الذي لا يظهر فيه من أحد نفع ولا ضر ، فكان الأمر كما قال سبحانه : (
والأمر يومئذ لله ) [الانفطار : 19] فلهذا السبب حسن هذا التخصيص .
ورابعها : قوله : (
عالم الغيب والشهادة ) تقديره ، وهو عالم الغيب والشهادة .
واعلم أنا ذكرنا في هذا الكتاب الكامل أنه سبحانه ما ذكر أحوال البعث في القيامة إلا وقرر فيه أصلين :
أحدهما : كونه قادرا على كل الممكنات .
والثاني : كونه عالما بكل المعلومات ؛ لأن بتقدير أن لا يكون قادرا على كل الممكنات لم يقدر على البعث والحشر ورد الأرواح إلى الأجساد ، وبتقدير أن لا يكون عالما بجميع الجزئيات لم يصح ذلك أيضا منه ؛ لأنه ربما اشتبه عليه المطيع بالعاصي ، والمؤمن بالكافر ، والصديق بالزنديق ، فلا يحصل المقصود الأصلي من البعث والقيامة . أما إذا ثبت بالدليل حصول هاتين
[ ص: 28 ] الصفتين كمل الغرض والمقصود ، فقوله : (
وله الملك يوم ينفخ في الصور ) يدل على كمال القدرة ، وقوله : (
عالم الغيب والشهادة ) يدل على كمال العلم فلا جرم لزم من مجموعهما أن يكون قوله حقا ، وأن يكون حكمه صدقا ، وأن تكون قضاياه مبرأة عن الجور والعبث والباطل .