المسألة الرابعة : اختلفوا في "الواو" في قوله : (
وليكون من الموقنين ) وذكروا فيه وجوها :
الأول : الواو زائدة والتقدير : نري
إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ليستدل بها ليكون من الموقنين .
الثاني : أن يكون هذا كلاما مستأنفا لبيان علة الإراءة ، والتقدير : وليكون من الموقنين نريه ملكوت السماوات والأرض .
الثالث : أن الإراءة قد تحصل وتصير سببا لمزيد الضلال كما في حق فرعون قال تعالى : (
ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى ) [ طه : 56 ] وقد تصير سببا لمزيد الهداية واليقين . فلما احتملت الإراءة هذين الاحتمالين قال
[ ص: 38 ] تعالى في حق
إبراهيم - عليه السلام - : إنا أريناه هذه الآيات ليراها ولأجل أن يكون من الموقنين لا من الجاحدين . والله أعلم .
المسألة الخامسة :
اليقين عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل ، ولهذا المعنى لا يوصف علم الله تعالى بكونه يقينا ؛ لأن علمه غير مسبوق بالشبهة وغير مستفاد من الفكر والتأمل . واعلم أن الإنسان في أول ما يستدل فإنه لا ينفك قلبه عن شك وشبهة من بعض الوجوه ، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت صارت سببا لحصول اليقين ؛ وذلك لوجوه :
الأول : أنه يحصل لكل واحد من تلك الدلائل نوع تأثر وقوة فلا تزال القوة تتزايد حتى ننتهي إلى الجزم .
الثاني : أن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكة فكثرة الاستدلال بالدلائل المختلفة على المدلول الواحد جار مجرى تكرار الدرس الواحد ، فكما أن كثرة التكرار تفيد الحفظ المتأكد الذي لا يزول عن القلب ، فكذا ههنا .
الثالث : أن القلب عند الاستدلال كان مظلما جدا فإذا حصل فيه الاعتقاد المستفاد من الدليل الأول امتزج نور ذلك الاستدلال بظلمة سائر الصفات الحاصلة في القلب ، فحصل فيه حالة شبيهة بالحالة الممتزجة من النور والظلمة ، فإذا حصل الاستدلال الثاني امتزج نوره بالحالة الأولى ، فيصير الإشراق واللمعان أتم . وكما أن الشمس إذا قربت من المشرق ظهر نورها في أول الأمر وهو الصبح . فكذلك الاستدلال الأول يكون كالصبح ، ثم كما أن الصبح لا يزال يتزايد بسبب تزايد قرب الشمس من سمت الرأس ، فإذا وصلت إلى سمت الرأس حصل النور التام ، فكذلك
العبد كلما كان تدبره في مراتب مخلوقات الله تعالى أكثر كان شروق نور المعرفة والتوحيد أجلى . إلا أن الفرق بين شمس العلم وبين شمس العالم أن شمس العالم الجسماني لها في الارتقاء والتصاعد حد معين لا يمكن أن يزاد عليه في الصعود ، وأما شمس المعرفة والعقل والتوحيد ، فلا نهاية لتصاعدها ولا غاية لازديادها فقوله : (
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ) إشارة إلى
مراتب الدلائل والبينات ، وقوله : (
وليكون من الموقنين ) إشارة إلى درجات أنوار التجلي وشروق شمس المعرفة والتوحيد . والله أعلم .