ثم قال تعالى : (
وجنات من أعناب والزيتون والرمان ) وفيه أبحاث :
البحث الأول : قرأ
عاصم : " جنات " بضم التاء ، وهي قراءة
علي - رضي الله عنه - ، والباقون " جنات " بكسر التاء . أما القراءة الأولى فلها وجهان :
الأول : أن يراد ، وثم جنات من أعناب أي مع النخل .
والثاني : أن يعطف على " قنوان " على معنى : وحاصلة أو ومخرجة من النخل قنوان وجنات من أعناب ، وأما القراءة بالنصب فوجهها العطف على قوله : (
نبات كل شيء ) والتقدير : وأخرجنا به جنات من أعناب ، وكذلك قوله : (
والزيتون والرمان ) قال صاحب " الكشاف " : والأحسن أن ينتصبا على الاختصاص ، كقوله تعالى : (
والمقيمين الصلاة ) [ النساء : 162 ] لفضل هذين الصنفين .
والبحث الثاني : قال
الفراء : قوله : (
والزيتون والرمان ) يريد شجر الزيتون ، وشجر الرمان كما قال : (
واسأل القرية ) [ يوسف : 82 ] يريد أهلها .
البحث الثالث : اعلم أنه تعالى ذكر هاهنا أربعة أنواع من الأشجار ؛ النخل والعنب والزيتون والرمان ، وإنما قدم الزرع على الشجر لأن الزرع غذاء ، وثمار الأشجار فواكه ، والغذاء مقدم على الفاكهة ، وإنما
قدم النخل على سائر الفواكه ؛ لأن التمر يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب ، ولأن الحكماء بينوا أن بينه وبين الحيوان مشابهة في خواص كثيرة ، بحيث لا توجد تلك المشابهة في سائر أنواع النبات ، ولهذا المعنى قال عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012641أكرموا عمتكم النخلة ، فإنها خلقت من بقية طينة آدم وإنما ذكر العنب عقيب النخل لأن
العنب أشرف أنواع الفواكه ، وذلك لأنه من أول ما يظهر يصير منتفعا به إلى آخر الحال ، فأول ما يظهر على الشجر يظهر خيوط خضر دقيقة حامضة الطعم لذيذة المطعم ، وقد يمكن اتخاذ الطبائخ منه ، ثم بعده يظهر الحصرم ، وهو طعام شريف للأصحاء والمرضى ، وقد يتخذ الحصرم أشربة لطيفة المذاق نافعة لأصحاب الصفراء ، وقد يتخذ الطبيخ منه ، فكأنه ألذ الطبائخ الحامضة ، ثم إذا تم العنب فهو ألذ الفواكه وأشهاها ، ويمكن ادخار العنب المعلق سنة أو أقل أو أكثر ، وهو في الحقيقة
ألذ الفواكه المدخرة ثم يبقى منه أربعة أنواع من المتناولات ، وهي الزبيب والدبس والخمر والخل ، ومنافع هذه الأربعة لا يمكن ذكرها إلا في المجلدات ، والخمر وإن كان الشرع قد حرمها ، ولكنه تعالى قال في صفتها : (
ومنافع للناس ) [ البقرة : 219 ] ثم قال : (
وإثمهما أكبر من نفعهما ) [ البقرة : 219 ] فأحسن ما في العنب عجمه ، والأطباء يتخذون منه جوارشنات عظيمة النفع للمعدة الضعيفة الرطبة ، فثبت أن العنب كأنه سلطان الفواكه ، وأما
الزيتون فهو أيضا
[ ص: 90 ] كثير النفع لأنه يمكن تناوله كما هو ، وينفصل أيضا عنه دهن كثير عظيم النفع في الأكل وفي سائر وجوه الاستعمال ، وأما
الرمان فحاله عجيب جدا ، وذلك لأنه جسم مركب من أربعة أقسام : قشره وشحمه وعجمه وماؤه .
أما الأقسام الثلاثة الأول وهي : القشر والشحم والعجم ، فكلها باردة يابسة ، أرضية كثيفة قابضة ، عفصة قوية في هذه الصفات ، وأما ماء الرمان ، فبالضد من هذه الصفات ، فإنه ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال ، وأشدها مناسبة للطباع المعتدلة ، وفيه تقوية للمزاج الضعيف ، وهو غذاء من وجه ودواء من وجه ، فإذا تأملت في الرمان وجدت الأقسام الثلاثة موصوفة بالكثافة التامة الأرضية ، ووجدت القسم الرابع وهو ماء الرمان موصوفا باللطافة والاعتدال ، فكأنه سبحانه جمع فيه بين المتضادين المتغايرين ، فكانت دلالة القدرة والرحمة فيه أكمل وأتم .
واعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفي بشرحها مجلدات ، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه الأقسام الأربعة التي هي أشرف أنواع النبات ، واكتفى بذكرها تنبيها على البواقي ، ولما ذكرها قال تعالى : (
مشتبها وغير متشابه ) وفيه مباحث :
الأول : في تفسير (
مشتبها ) وجوه :
الأول : أن هذه
الفواكه قد تكون متشابهة في اللون والشكل ، مع أنها تكون مختلفة في الطعم واللذة ، وقد تكون مختلفة في اللون والشكل ، مع أنها تكون متشابهة في الطعم واللذة ، فإن الأعناب والرمان قد تكون متشابهة في الصورة واللون والشكل ، ثم إنها تكون مختلفة في الحلاوة والحموضة وبالعكس .
الثاني : أن أكثر الفواكه يكون ما فيها من القشر والعجم متشابها في الطعم والخاصية ، وأما ما فيها من اللحم والرطوبة فإنه يكون مختلفا في الطعم .
والثالث : قال
قتادة : أوراق الأشجار تكون قريبة من التشابه ، أما ثمارها فتكون مختلفة ، ومنهم من يقول : الأشجار متشابهة والثمار مختلفة .
والرابع : أقول : إنك قد تأخذ العنقود من العنب فترى جميع حباته مدركة نضيجة حلوة طيبة إلا حبات مخصوصة منها ، بقيت على أول حالها من الخضرة والحموضة والعفوصة . وعلى هذا التقدير : فبعض حبات ذلك العنقود متشابهة وبعضها غير متشابه .
والبحث الثاني : يقال : اشتبه الشيئان وتشابها كقولك استويا وتساويا ، والافتعال والتفاعل يشتركان كثيرا ، وقرئ : " متشابها وغير متشابه " .
والبحث الثالث : إنما قال : " مشتبها " ولم يقل : " مشتبهين " إما اكتفاء بوصف أحدهما ، أو على تقدير : والزيتون مشتبها وغير متشابه والرمان ؛ كذلك كقوله :
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريا ومن أجل الطوى رماني
.