(
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ) قوله تعالى : (
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون )
[ ص: 192 ] اعلم أنه تعالى ذكر في الآية الأولى خمسة أنواع من التكاليف ، وهي أمور ظاهرة جلية لا حاجة فيها إلى الفكر والاجتهاد ، ثم ذكر تعالى في هذه الآية أربعة أنواع من التكاليف ، وهي أمور خفية يحتاج المرء العاقل في معرفته بمقدارها إلى التفكر ، والتأمل والاجتهاد .
فالنوع الأول من التكاليف المذكورة في هذه الآية قوله : (
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ) .
واعلم أنه تعالى قال في سورة البقرة : (
في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير ) والمعنى : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بأن يسعى في
تنميته وتحصيل الربح به ورعاية وجوه الغبطة له ، ثم إن كان القيم فقيرا محتاجا أخذ بالمعروف ، وإن كان غنيا فاحترز عنه كان أولى فقوله : (
إلا بالتي هي أحسن ) معناه كمعنى قوله : (
ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) [ النساء : 6 ] .
وأما قوله : (
حتى يبلغ أشده ) فالمعنى احفظوا ماله حتى يبلغ أشده ، فإذا بلغ أشده فادفعوا إليه ماله . وأما معنى الأشد وتفسيره : قال
الليث : الأشد مبلغ الرجل الحكمة والمعرفة . قال
الفراء : الأشد . واحدها شد ؛ في القياس ، ولم أسمع لها بواحد . وقال
أبو الهيثم : واحدة الأشد شدة كما أن واحدة الأنعم نعمة ، والشدة : القوة والجلادة ، والشديد الرجل القوي ، وفسروا
بلوغ الأشد في هذه الآية بالاحتلام بشرط أن يؤنس منه الرشد ، وقد استقصينا في هذا الفصل في أول سورة النساء .
والنوع الثاني : قوله تعالى : (
وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ) .
اعلم أن كل شيء بلغ تمام الكمال ، فقد وفى وتم . يقال : درهم واف ، وكيل واف ، وأوفيته حقه ، ووفيته إذا أتممته ، وأوفى الكيل إذا أتمه ولم ينقص منه شيئا وقوله : ( والميزان ) أي الوزن بالميزان وقوله : ( بالقسط ) أي بالعدل لا بخس ولا نقصان .
فإن قيل :
إيفاء الكيل والميزان ، هو عين القسط ، فما الفائدة في هذا التكرير ؟
قلنا : أمر الله المعطي بإيفاء ذي الحق حقه من غير نقصانه ، وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير طلب الزيادة .
واعلم أنه لما كان يجوز أن يتوهم الإنسان أنه يجب على التحقيق وذلك صعب شديد في العدل أتبعه الله تعالى بما يزيل هذا التشديد فقال : (
لا نكلف نفسا إلا وسعها ) أي الواجب في إيفاء الكيل والوزن هذا القدر الممكن في إبقاء الكيل والوزن . أما التحقيق فغير واجب . قال القاضي : إذا كان تعالى قد خفف على المكلف هذا التخفيف مع أن ما هو التضييق مقدور له ، فكيف يتوهم أنه تعالى يكلف الكافر الإيمان مع أنه لا قدرة له عليه ؟ بل قالوا : يخلق الكفر فيه ، ويريده منه ، ويحكم به عليه ، ويخلق فيه القدرة الموجبة لذلك الكفر ، والداعية الموجبة له ، ثم ينهاه عنه فهو تعالى لما لم يجوز ذلك القدر من التشديد والتضييق على العبد ، وهو إيفاء الكيل والوزن على سبيل التحقيق ، فكيف يجوز أن يضيف على العبد مثل هذا التضييق والتشديد ؟
واعلم أنا نعارض القاضي وشيوخه في هذا الموضع بمسألة العلم ومسألة الداعي ، وحينئذ ينقطع ولا يبقى لهذا الكلام رواء ولا رونق .
[ ص: 193 ] النوع الثالث : من التكاليف المذكورة في هذه الآية ، قوله تعالى : (
وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ) واعلم أن هذا أيضا من الأمور الخفية التي أوجب الله تعالى فيها
أداء الأمانة ، والمفسرون حملوه على أداء الشهادة فقط ، والأمر والنهي فقط ، قال القاضي : وليس الأمر كذلك ، بل يدخل فيه كل ما يتصل بالقول ، فيدخل فيه ما يقول المرء في الدعوة إلى الدين وتقرير الدلائل عليه ؛ بأن يذكر الدليل ملخصا عن الحشو والزيادة بألفاظ مفهومة معتادة ، قريبة من الأفهام ، ويدخل فيه أن يكون
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واقعا على وجه العدل من غير زيادة في الإيذاء والإيحاش ، ونقصان عن القدر الواجب ، ويدخل فيه الحكايات التي يذكرها الرجل حتى لا يزيد فيها ولا ينقص عنها ، ومن جملتها تبليغ الرسالات عن الناس ، فإنه يجب أن يؤديها من غير زيادة ولا نقصان ، ويدخل فيه حكم الحاكم بالقول .
ثم إنه تعالى بين أنه يجب أن يسوى فيه بين القريب والبعيد ؛ لأنه لما كان المقصود منه طلب رضوان الله تعالى لم يختلف ذلك بالقريب والبعيد .
والنوع الرابع : من هذه التكاليف قوله تعالى : (
وبعهد الله أوفوا ) وهذا من خفيات الأمور ؛ لأن الرجل قد يحلف مع نفسه ، فيكون ذلك الحلف خفيا ، ويكون بره وحنثه أيضا خفيا ، ولما ذكر تعالى هذه الأقسام قال : (
ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ) .
فإن قيل : فما
السبب في أن جعل خاتمة الآية الأولى بقوله : ( لعلكم تعقلون ) وخاتمة هذه الآية بقوله : (
لعلكم تذكرون ) ؟
قلنا : لأن التكاليف الخمسة المذكورة في الأولى أمور ظاهرة جلية ، فوجب تعقلها وتفهمها وأما التكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية فأمور خفية غامضة ، لا بد فيها من الاجتهاد والفكر حتى يقف على موضع الاعتدال ، فلهذا السبب قال : (
لعلكم تذكرون ) قرأ
حمزة والكسائي وحفص عن
عاصم ( تذكرون ) بالتخفيف والباقون ( تذكرون ) بتشديد الذال في كل القرآن وهما بمعنى واحد .