[ ص: 78 ] (
ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون )
قوله تعالى : (
ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون )
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل الجنة ، وأهل النار ، وأهل الأعراف ، ثم شرح الكلمات الدائرة بين هؤلاء الفرق الثلاث على وجه يصير سماع تلك المناظرات حاملا للمكلف على الحذر والاحتراز ، وداعيا له إلى النظر والاستدلال ، بين
شرف هذا الكتاب الكريم ونهاية منفعته فقال : (
ولقد جئناهم بكتاب ) وهو القرآن ( فصلناه ) أي ميزنا بعضه عن بعض ، تمييزا يهدي إلى الرشد ويؤمن عن الغلط والخبط .
فأما قوله : (
على علم ) فالمراد أن ذلك التفصيل والتمييز إنما حصل مع العلم التام بما في كل فصل من تلك الفصول من الفوائد المتكاثرة ، والمنافع المتزايدة ، وقوله : (
هدى ورحمة ) قال
الزجاج : ( هدى ) في موضع نصب أي فصلناه هاديا وذا رحمة ، وقوله : (
لقوم يؤمنون ) يدل على أن
القرآن جعل هدى لقوم مخصوصين ، والمراد أنهم هم الذين اهتدوا به دون غيرهم ، فهو كقوله تعالى في أول سورة البقرة : (
هدى للمتقين ) [البقرة : 2] واحتج أصحابنا بقوله : (
فصلناه على علم ) على أنه تعالى عالم بالعلم ، خلافا لما يقوله
المعتزلة من أنه ليس لله علم . والله أعلم .
قوله تعالى : (
هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون )
اعلم أنه تعالى لما بين إزاحة العلة بسبب إنزال هذا الكتاب المفصل الموجب للهداية والرحمة ، بين بعده حال من كذب فقال : (
هل ينظرون إلا تأويله ) والنظر ههنا بمعنى الانتظار والتوقع .
فإن قيل : كيف يتوقعون وينتظرون مع جحدهم له وإنكارهم ؟
قلنا : لعل فيهم أقواما تشككوا وتوقفوا ، فلهذا السبب انتظروه ، وأيضا إنهم وإن كانوا جاحدين إلا أنهم بمنزلة المنتظرين من حيث إن تلك الأحوال تأتيهم لا محالة ، وقوله : ( إلا تأويله ) قال
الفراء : الضمير في قوله : ( تأويله ) للكتاب يريد عاقبة ما وعدوا به على ألسنة الرسل من الثواب والعقاب . والتأويل مرجع الشيء ومصيره من قولهم : آل الشيء يئول .
وقد احتج بهذه الآية من ذهب إلى أن قوله : (
وما يعلم تأويله إلا الله ) [آل عمران : 7] أي ما يعلم عاقبة الأمر فيه إلا الله . وقوله : (
يوم يأتي تأويله ) يريد يوم القيامة .
قال
الزجاج : قوله : ( يوم ) نصب بقوله : ( يقول ) ، وأما قوله : (
يقول الذين نسوه من قبل ) معناه أنهم صاروا في الإعراض عنه بمنزلة من نسيه ، ويجوز أن يكون معنى ( نسوه ) أي تركوا العمل به والإيمان به ، وهذا كما ذكرنا في قوله : (
كما نسوا لقاء يومهم هذا ) ثم بين تعالى أن هؤلاء الذين نسوا يوم القيامة يقولون : (
قد جاءت رسل ربنا بالحق )
[ ص: 79 ] والمراد أنهم أقروا بأن الذي جاءت به الرسل من ثبوت الحشر ، والنشر ، والبعث ، والقيامة ، والثواب ، والعقاب ، كل ذلك كان حقا ، وإنما أقروا بحقيقة هذه الأشياء ؛ لأنهم شاهدوها وعاينوها ، وبين الله تعالى أنهم لما رأوا أنفسهم في العذاب قالوا : (
فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل ) والمعنى أنه لا طريق لنا إلى الخلاص مما نحن فيه من العذاب الشديد إلا أحد هذين الأمرين : وهو أن يشفع لنا شفيع ، فلأجل تلك الشفاعة يزول هذا العذاب ، أو يردنا الله تعالى إلى الدنيا حتى نعمل غير ما كنا نعمل يعني نوحد الله تعالى بدلا عن الكفر ، ونطيعه بدلا عن المعصية .
فإن قيل : أقالوا هذا الكلام مع الرجاء أو مع اليأس ؟ وجوابنا عنه مثل ما ذكرناه في قوله : (
أفيضوا علينا من الماء ) ثم بين تعالى بقوله : (
قد خسروا أنفسهم ) أن الذي طلبوه لا يكون ؛ لأن ذلك المطلوب لو حصل لما حكم الله عليهم بأنهم قد خسروا أنفسهم .
ثم قال : (
وضل عنهم ما كانوا يفترون ) يريد أنهم لم ينتفعوا بالأصنام التي عبدوها في الدنيا ولم ينتفعوا بنصرة الأديان الباطلة التي بالغوا في نصرتها ، قال
الجبائي : هذه الآية تدل على حكمين :
الحكم الأول
قال : الآية تدل على أنهم كانوا في حال التكليف قادرين على الإيمان والتوبة فلذلك سألوا الرد ليؤمنوا ويتوبوا ، ولو كانوا في الدنيا غير قادرين ، كما يقوله المجبرة ، لم يكن لهم في الرد فائدة ولا جاز أن يسألوا ذلك .
الحكم الثاني
أن الآية تدل على
بطلان قول المجبرة والذين يزعمون أن أهل الآخرة مكلفون ؛ لأنه لو كان كذلك لما سألوا الرد إلى حال وهم في الوقت على مثلها ، بل كانوا يتوبون ويؤمنون في الحال ، فبطل ما حكي عن
النجار وطبقته من أن التكليف باق على أهل الآخرة .