[ ص: 116 ] ثم قال تعالى : (
سقناه لبلد ميت ) والمعنى أنا نسوق ذلك السحاب إلى بلد ميت لم ينزل فيه غيث ولم ينبت فيه خضرة .
فإن قيل :
السحاب إن كان مذكرا يجب أن يقول : حتى إذا أقلت سحابا ثقيلا ، وإن كان مؤنثا يجب أن يقول سقناه ؛ فكيف التوفيق ؟ !
والجواب : أن السحاب لفظه مذكر وهو جمع سحابة . فكان ورود الكناية عنه على سبيل التذكير جائزا ، نظرا إلى اللفظ ، وعلى سبيل التأنيث أيضا جائزا ، نظرا إلى كونه جمعا ، أما "اللام" في قوله : (
سقناه لبلد ) ففيه قولان : قال بعضهم : هذه "اللام" بمعنى إلى ، يقال : هديته للدين وإلى الدين . وقال آخرون : هذه "اللام" بمعنى من أجل ، والتقدير سقناه لأجل بلد ميت ليس فيه حيا يسقيه . وأما البلد فكل موضع من الأرض عامر أو غير عامر ، خال أو مسكون ، فهو بلد ، والطائفة منه بلدة والجميع البلاد والفلاة تسمى بلدة ، قال
الأعشى :
وبلدة مثل ظهر الترس موحشة للجن بالليل في حافاتها زجل
ثم قال تعالى : (
فأنزلنا به الماء ) اختلفوا في أن الضمير في قوله (
به ) إلى ماذا يعود ؟ قال
الزجاج nindex.php?page=showalam&ids=12590وابن الأنباري : جائز أن يكون فأنزلنا بالبلد الماء ، وجائز أن يكون فأنزلنا بالسحاب الماء ؛ لأن
السحاب آلة لإنزال الماء .
ثم قال : (
فأخرجنا به من كل الثمرات ) الكناية عائدة إلى الماء ؛ لأن إخراج الثمرات كان بالماء . قال
الزجاج : وجائز أن يكون التقدير : فأخرجنا بالبلد من كل الثمرات ؛ لأن البلد ليس يخص به هنا بلد دون بلد ، وعلى القول الأول ،
فالله تعالى إنما يخلق الثمرات بواسطة الماء . وقال أكثر المتكلمين : إن الثمار غير متولدة من الماء ، بل الله تعالى أجرى عادته بخلق النبات ابتداء عقيب اختلاط الماء بالتراب . وقال جمهور الحكماء : لا يمتنع أن يقال إنه تعالى أودع في الماء قوة طبيعية ، ثم إن تلك القوة الطبيعية توجب حدوث الأحوال المخصوصة عند امتزاج الماء بالتراب وحدوث الطبائع المخصوصة .
والمتكلمون احتجوا على فساد هذا القول ، بأن طبيعة الماء والتراب واحدة ، ثم إنا نرى أنه يتولد في النبات الواحد أحوال مختلفة مثل العنب فإن قشره بارد يابس ولحمه ، وماؤه حار رطب ، وعجمه بارد يابس ، فتولد الأجسام الموصوفة بالصفات المختلفة من الماء والتراب ، يدل على أنها إنما حدثت بإحداث الفاعل المختار لا بالطبع والخاصة .
ثم قال تعالى : (
كذلك نخرج الموتى ) وفيه قولان :
الأول : أن المراد هو
أنه تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال الأمطار ، فكذلك يحيي الموتى بواسطة مطر ينزله على تلك الأجسام الرميمة . وروي أنه تعالى يمطر على أجساد الموتى فيما بين النفختين مطرا كالمني أربعين يوما ، وأنهم ينبتون عند ذلك ويصيرون أحياء . قال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد : إذا أراد الله أن يبعثهم أمطر السماء عليهم حتى تنشق عنهم الأرض كما ينشق الشجر عن النور والثمر ، ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها .
والقول الثاني : أن التشبيه إنما وقع بأصل الإحياء بعد أن كان ميتا ، والمعنى : أنه تعالى كما أحيا هذا البلد بعد خرابه ، فأنبت فيه الشجر وجعل فيه الثمر ، فكذلك يحيي الموتى بعد أن كانوا أمواتا ؛ لأن من يقدر على إحداث الجسم ، وخلق الرطوبة والطعم فيه ، فهو أيضا يكون قادرا على إحداث الحياة في بدن الميت ، والمقصود منه إقامة الدلالة على أن البعث والقيامة حق .
[ ص: 117 ] واعلم أن الذاهبين إلى القول الأول إن اعتقدوا أنه لا يمكن بعث الأجساد إلا بأن يمطر على تلك الأجساد البالية مطرا على صفة المني ، فقد أبعد ، ولأن الذي يقدر على أن يحدث في ماء المطر الصفات التي باعتبارها صار المني منيا ابتداء ، فلم لا يقدر على خلق الحياة والجسم ابتداء ؟ وأيضا فهب أن ذلك المطر ينزل إلا أن أجزاء الأموات غير مختلطة ، فبعضها يكون بالمشرق ، وبعضها يكون بالمغرب ، فمن أين ينفع إنزال ذلك المطر في توليد تلك الأجساد ؟
فإن قالوا : إنه تعالى بقدرته وبحكمته يخرج تلك الأجزاء المتفرقة فلم لم يقولوا إنه بقدرته وحكمته يخلق الحياة في تلك الأجزاء ابتداء من غير واسطة ذلك المطر ؟ وإن اعتقدوا أنه تعالى قادر على إحياء الأموات ابتداء ، إلا أنه تعالى إنما يحييهم على هذا الوجه كما أنه قادر على خلق الأشخاص في الدنيا ابتداء ، إلا أنه أجرى عادته بأنه لا يخلقهم إلا من الأبوين فهذا جائز .
ثم قال تعالى : (
لعلكم تذكرون ) والمعنى : إنكم لما شاهدتم أن هذه الأرض كانت مزينة وقت الربيع والصيف بالأزهار والثمار ، ثم صارت عند الشتاء ميتة عارية عن تلك الزينة ، ثم إنه تعالى أحياها مرة أخرى ، فالقادر على إحيائها بعد موتها يجب كونه أيضا قادرا على إحياء الأجساد بعد موتها ، فقوله : (
لعلكم تذكرون ) المراد منه تذكر أنه لما لم يمتنع هذا المعنى في إحدى الصورتين وجب أن لا يمتنع في الصورة الأخرى .