(
إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب )
قوله تعالى :(
إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال
الزجاج :(
إذ ) موضعها نصب على معنى(
وما جعله الله إلا بشرى ) في ذلك الوقت . ويجوز أيضا أن يكون التقدير : اذكروا إذ يغشيكم النعاس أمنة .
المسألة الثانية : في(
يغشيكم ) ثلاث قراءات :
الأولى : قرأ
نافع بضم الياء ، وسكون الغين ، وتخفيف الشين(
النعاس ) بالنصب .
الثانية : ( يغشاكم ) بالألف وفتح الياء وسكون العين ( النعاس ) بالرفع وهي قراءة
أبي عمرو وابن كثير .
الثالثة : قرأ الباقون(
يغشيكم ) بتشديد الشين وضم الياء من التغشية(
النعاس ) بالنصب ، أي يلبسكم النوم . قال
الواحدي : القراءة الأولى من أغشى ، والثانية من غشي ، والثالثة من غشى ، فمن قرأ ( يغشاكم ) فحجته قوله :(
أمنة نعاسا ) [ آل عمران : 154 ] يعني : فكما أسند الفعل هناك إلى النعاس والأمنة التي هي سبب النعاس كذلك في هذه الآية ، ومن قرأ ( يغشيكم ) أو(
يغشيكم ) فالمعنى واحد ، وقد جاء التنزيل بهما في قوله تعالى :(
فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) [يس : 9] وقال :(
فغشاها ما غشى ) [النجم : 54] وقال :(
كأنما أغشيت وجوههم ) [يونس : 27] وعلى هذا فالفعل مسند إلى الله .
المسألة الثالثة : أنه تعالى لما ذكر أنه استجاب دعاءهم ووعدهم بالنصر فقال :(
وما النصر إلا من عند الله ) ذكر عقيبه وجوه النصر وهي ستة أنواع :
الأول : قوله :(
إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ) أي من قبل الله ،
[ ص: 107 ] واعلم أن كل نوم ونعاس فإنه لا يحصل إلا من قبل الله تعالى ، فتخصيص هذا النعاس بأنه من الله تعالى لا بد فيه من مزيد فائدة ، وذكروا فيه وجوها :
أحدها : أن الخائف إذا خاف من عدوه الخوف الشديد على نفسه وأهله فإنه لا يأخذه النوم ، وإذا نام الخائفون أمنوا ، فصار حصول النوم لهم في وقت الخوف الشديد يدل على إزالة الخوف وحصول الأمن .
وثانيها : أنهم خافوا من جهات كثيرة :
أحدها : قلة المسلمين وكثرة الكفار .
وثانيها : الأهبة والآلة والعدة للكافرين وقلتها للمؤمنين .
وثالثها : العطش الشديد ، فلولا حصول هذا النعاس وحصول الاستراحة حتى تمكنوا في اليوم الثاني من القتال لما تم الظفر .
والوجه الثالث في بيان كون ذلك النعاس نعمة في حقهم : أنهم ما ناموا نوما غرقا يتمكن العدو من معافصتهم بل كان ذلك نعاسا يحصل لهم زوال الإعياء والكلال مع أنهم كانوا بحيث لو قصدهم العدو لعرفوا وصوله ولقدروا على دفعه .
والوجه الرابع : أنه غشيهم هذا النعاس دفعة واحدة مع كثرتهم ، وحصول النعاس للجمع العظيم في الخوف الشديد أمر خارق للعادة؛ فلهذا السبب قيل : إن ذلك النعاس كان في حكم المعجز .
فإن قيل : فإن كان الأمر كما ذكرتم فلم خافوا بعد ذلك النعاس ؟ .
قلنا : لأن المعلوم أن الله تعالى يجعل جند الإسلام مظفرا منصورا وذلك لا يمنع من صيرورة قوم منهم مقتولين .
فإن قيل : إذا قرئ ( يغشيكم ) بالتخفيف والتشديد ونصب(
النعاس ) فالضمير لله عز وجل و(
أمنة ) مفعول له . أما
إذا قرئ ( يغشاكم النعاس ) فكيف يمكن جعل قوله :( أمنة ) مفعولا له ، مع أن المفعول له يجب أن يكون فعلا لفاعل الفعل المعلل ؟ .
قلنا : قوله : (يغشاكم) وإن كان في الظاهر مسندا إلى النعاس ، إلا أنه في الحقيقة مسند إلى الله تعالى ، فصح هذا التعليل نظرا إلى المعنى . قال صاحب "الكشاف" : وقرئ ( أمنة ) بسكون الميم ، ونظير أمن أمنة ، حيي حياة ، ونظير أمن "أمنة" رحم رحمة . قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : النعاس في القتال أمنة من الله ، وفي الصلاة وسوسة من الشيطان .
النوع الثاني : من أنواع نعم الله تعالى المذكورة في هذا الموضع قوله تعالى :(
وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان ) ولا شبهة أن المراد منه المطر ، وفي الخبر أن القوم سبقوا إلى موضع الماء واستولوا عليه ، وطمعوا لهذا السبب أن تكون لهم الغلبة ، وعطش المؤمنون وخافوا ، وأعوزهم الماء للشرب والطهارة ، وأكثرهم احتلموا وأجنبوا ، وانضاف إلى ذلك أن ذلك الموضع كان رملا تغوص فيه الأرجل ويرتفع منه الغبار الكثير ، وكان الخوف حاصلا في قلوبهم بسبب كثرة العدو وسبب كثرة آلاتهم وأدواتهم ، فلما أنزل الله تعالى ذلك المطر صار ذلك دليلا على حصول النصرة والظفر ، وعظمت النعمة به من جهات :
أحدها : زوال العطش ، فقد روي أنهم حفروا موضعا في الرمل ، فصار كالحوض الكبير ، واجتمع فيه الماء حتى شربوا منه وتطهروا وتزودوا .
وثانيها : أنهم اغتسلوا من ذلك الماء ، وزالت الجنابة عنهم ، وقد علم بالعادة أن المؤمن يكاد يستقذر نفسه إذا كان جنبا ، ويغتم إذا لم يتمكن من الاغتسال ، ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب ، فلا جرم عد تعالى وتقدس تمكينهم من الطهارة من جملة نعمه .
[ ص: 108 ]
وثالثها : أنهم لما عطشوا ولم يجدوا الماء ثم ناموا واحتلموا تضاعفت حاجتهم إلى الماء ثم إن المطر نزل فزالت عنهم تلك البلية والمحنة وحصل المقصود ، وفي هذه الحالة ما قد يستدل به على زوال العسر وحصول اليسر والمسرة .