المسألة الرابعة : احتج أصحابنا في إثبات أن
كل ما دخل في الوجود فهو مراد الله تعالى بقوله :(
وتزهق أنفسهم وهم كافرون ) قالوا : لأن معنى الآية : أن الله تعالى أراد إزهاق أنفسهم مع الكفر ، ومن أراد ذلك فقد أراد الكفر .
أجاب
الجبائي فقال : معنى الآية أنه تعالى أراد إزهاق أنفسهم حال ما كانوا كافرين ، وهذا لا يقتضي كونه تعالى مريدا للكفر ، ألا ترى أن المريض قد يقول للطبيب : أريد أن تدخل علي في وقت مرضي ، فهذه الإرادة لا توجب كونه مريدا لمرض نفسه ، وقد يقول للطبيب : أريد أن تطيب جراحتي ، وهذا لا يقتضي أن يكون مريدا لحصول تلك الجراحة ، وقد يقول السلطان لعسكره : اقتلوا البغاة حال إقدامهم على الحرب ، وهذا لا يدل على كونه مريدا لذلك الحرب ، فكذا ههنا .
والجواب : أن الذي قاله تمويه عجيب ؛ وذلك لأن جميع الأمثلة التي ذكرها حاصلها يرجع إلى حرف واحد ، وهو أنه يريد إزالة ذلك الشيء ، فإذا قال المريض للطبيب : أريد أن تدخل علي في وقت مرضي ، كان معناه : أريد أن تسعى في إزالة مرضي ، وإذا قال له : أريد أن تطيب جراحتي كان معناه : أريد أن تزيل عني هذه الجراحة ، وإذا قال السلطان : اقتلوا البغاة حال إقدامهم على الحرب ، كان معناه طلب إزالة تلك
[ ص: 77 ] المحاربة وإبطالها وإعدامها ، فثبت أن المراد والمطلوب في كل هذه الأمثلة إعدام ذلك الشيء وإزالته ، فيمتنع أن يكون وجوده مرادا ، بخلاف هذه الآية ؛ وذلك لأن إزهاق نفس الكافر ليس عبارة عن إزالة كفره ، وليس أيضا مستلزما لتلك الإزالة ، بل هما أمران متناسبان ، ولا منافاة بينهما البتة ، فلما ذكر الله في هذه الآية أنه أراد إزهاق أنفسهم حال كونهم كافرين ، وجب أن يكون مريدا لكونهم كافرين حال حصول ذلك الإزهاق ، كما أنه لو قال : أريد أن ألقى فلانا حال كونه في الدار ، فإنه يقتضي أن يكون قد أراد كونه في الدار ، وتمام التحقيق في هذا التقدير : أن الإزهاق في حال الكفر يمتنع حصوله إلا حال حصول الكفر ، ومريد الشيء مريد لما هو من ضروراته ، فلما أراد الله الإزهاق حال الكفر ، وثبت أن من أراد شيئا فقد أراد جميع ما هو من ضروراته ، لزم كونه تعالى مريدا لذلك الكفر ، فثبت أن الأمثلة التي أوردها
الجبائي محض التمويه .