أما قوله تعالى :(
وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه :
الأول : أن المقصود منه أن لا يتوهم إنسان أنه تعالى منع
محمدا من بعض ما أذن
لإبراهيم فيه .
والثاني : أن يقال إنا ذكرنا في سبب اتصال هذه الآية بما قبلها المبالغة في إيجاب
الانقطاع عن الكفار أحيائهم وأمواتهم . ثم بين تعالى أن هذا الحكم غير مختص بدين
محمد - عليه الصلاة والسلام - ، بل المبالغة في تقرير وجوب الانقطاع كانت مشروعة أيضا في دين
إبراهيم - عليه السلام - ، فتكون المبالغة في تقرير وجوب المقاطعة والمباينة من الكفار أقوى .
الثالث : أنه تعالى وصف
إبراهيم - عليه السلام - في هذه الآية بكونه حليما أي : قليل الغضب ، وبكونه أواها أي : كثير التوجع والتفجع عند نزول المضار بالناس ، والمقصود أن من كان موصوفا بهذه الصفات كان ميل قلبه إلى الاستغفار لأبيه شديدا ، فكأنه قيل : إن
إبراهيم مع جلالة قدره ومع كونه موصوفا بالأواهية والحليمية منعه الله تعالى من الاستغفار لأبيه الكافر ، فلأن يكون غيره ممنوعا من هذا المعنى كان أولى .
المسألة الثانية : دل القرآن على
أن إبراهيم - عليه السلام - استغفر لأبيه ، قال تعالى حكاية عنه
[ ص: 167 ] (
واغفر لأبي إنه كان من الضالين ) ( الشعراء : 86 ) وأيضا قال عنه :(
ربنا اغفر لي ولوالدي ) ( إبراهيم : 41 ) وقال تعالى حكاية عنه في سورة مريم قال :(
سلام عليك سأستغفر لك ربي ) ( مريم : 47 ) وقال أيضا :(
لأستغفرن لك ) ( الممتحنة : 4 ) وثبت أن
الاستغفار للكافر لا يجوز ، فهذا يدل على صدور هذا الذنب من
إبراهيم - عليه السلام - .
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذا الإشكال بقوله :(
وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ) وفيه قولان :
الأول : أن يكون الواعد أبا
إبراهيم - عليه السلام - ، والمعنى : أن أباه وعده أن يؤمن ، فكان
إبراهيم - عليه السلام - يستغفر لأجل أن يحصل هذا المعنى ، فلما تبين له أنه لا يؤمن وأنه عدو لله تبرأ منه ، وترك ذلك الاستغفار .
الثاني : أن يكون الواعد
إبراهيم - عليه السلام - ، وذلك أنه وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه(
فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ) والدليل على صحة هذا التأويل قراءة
الحسن ( وعدها أباه ) بالباء ، ومن الناس من ذكر في الجواب وجهين آخرين .
الوجه الأول :
المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإيمان والإسلام ، وكان يقول له : آمن حتى تتخلص من العقاب وتفوز بالغفران ، وكان يتضرع إلى الله في أن يرزقه الإيمان الذي يوجب المغفرة ، فهذا هو الاستغفار ، فلما أخبره الله تعالى بأنه يموت مصرا على الكفر ترك تلك الدعوة .
والوجه الثاني في الجواب : أن من الناس من حمل قوله :(
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) على صلاة الجنازة ، وبهذا الطريق فلا امتناع في الاستغفار للكافر لكون الفائدة في ذلك الاستغفار تخفيف العقاب ، قالوا : والدليل على أن المراد ما ذكرناه ، أنه تعالى منع من
الصلاة على المنافقين ، وهو قوله :(
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ) ( التوبة : 84 ) وفي هذه الآية عم هذا الحكم ، ومنع من
الصلاة على المشركين ، سواء كان منافقا أو كان مظهرا لذلك الشرك ، وهذا قول غريب .