أما قوله تعالى : (
إذ تفيضون فيه ) فاعلم أن الإفاضة ههنا الدخول في العمل على جهة الانصباب إليه ، وهو الانبساط في العمل ، يقال : أفاض القوم في الحديث إذا اندفعوا فيه ، وقد أفاضوا من
عرفة إذا دفعوا منه بكثرتهم ، فتفرقوا .
فإن قيل : " إذ " ههنا بمعنى حين ، فيصير تقدير الكلام إلا كنا عليكم شهودا حين تفيضون فيه ، وشهادة الله تعالى عبارة عن علمه ، فيلزم منه أن يقال إنه تعالى ما علم الأشياء إلا عند وجودها ، وذلك باطل .
قلنا : هذا السؤال بناء على أن شهادة الله تعالى عبادة عن علمه ، وهذا ممنوع ، فإن الشهادة لا تكون إلا عند وجود المشهود عليه ، وأما العلم فلا يمتنع تقدمه على الشيء ، والدليل عليه أن الرسول - عليه السلام - لو أخبرنا عن زيد أنه يأكل غدا كنا من قبل حصول تلك الحالة عالمين بها ولا نوصف بكوننا شاهدين لها .
واعلم أن حاصل هذه الكلمات أنه
لا يخرج عن علم الله شيء .
ثم إنه تعالى أكد هذا الكلام زيادة تأكيد ، فقال : (
وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أصل العزوب من البعد ، يقال : كلأ عازب إذا كان بعيد المطلب ، وعزب الرجل بإبله إذا أرسلها إلى موضع بعيد من المنزل ، والرجل سمي عزبا لبعده عن الأهل ، وعزب الشيء عن علمي إذا بعد .
المسألة الثانية : قرأ
الكسائي " وما يعزب " بكسر الزاي ، والباقون بالضم ، وفيه لغتان : عزب يعزب ، وعزب يعزب .
المسألة الثالثة : قوله : (
من مثقال ذرة ) أي وزن ذرة ، ومثقال الشيء ما يساويه في الثقل ، والمعنى : ما يساوي ذرة ، والذر صغار النمل واحدها ذرة ، وهي تكون خفيفة الوزن جدا ، وقوله : (
في الأرض ولا في السماء ) فالمعنى ظاهر .
فإن قيل : لم قدم الله ذكر الأرض ههنا على ذكر السماء مع أنه تعالى قال في سورة سبأ : (
عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ) [ سبأ : 3 ] .
قلنا : حق السماء أن تقدم على الأرض ، إلا أنه تعالى لما ذكر في هذه الآية شهادته على أحوال أهل الأرض وأعمالهم ، ثم وصل بذلك قوله لا يعزب عنه ، ناسب أن تقدم الأرض على السماء في هذا الموضع .