وأما قوله تعالى في صفتهم : (
لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ففيه بحثان :
البحث الأول : أن الخوف إنما يكون في المستقبل بمعنى أنه يخاف حدوث شيء في المستقبل من المخوف ، والحزن إنما يكون على الماضي إما لأجل أنه كان قد حصل في الماضي ما كرهه أو لأنه فات شيء أحبه .
البحث الثاني : قال بعض المحققين : إن
نفي الحزن والخوف إما أن يحصل للأولياء حال كونهم في الدنيا أو حال انتقالهم إلى الآخرة ، والأول باطل لوجوه :
أحدها : أن هذا لا يحصل في دار الدنيا لأنها دار خوف وحزن والمؤمن خصوصا لا يخلو من ذلك على ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012427الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " وعلى ما قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012933حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات "
وثانيها : أن المؤمن ، وإن صفا عيشه في الدنيا ، فإنه لا يخلو من هم بأمر الآخرة شديد ، وحزن على ما يفوته من القيام بطاعة الله تعالى ، وإذا بطل هذا القسم وجب حمل قوله تعالى : (
لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) على أمر الآخرة ، فهذا كلام محقق .
وقال بعض العارفين : إن الولاية عبارة عن القرب ،
فولي الله تعالى هو الذي يكون في غاية القرب من الله تعالى ، وهذا التقرير قد فسرناه باستغراقه في معرفة الله تعالى بحيث لا يخطر بباله في تلك اللحظة شيء مما سوى الله ، ففي هذه الساعة تحصل الولاية التامة ، ومتى كانت هذه الحالة حاصلة ، فإن صاحبها لا يخاف شيئا ، ولا يحزن بسبب شيء ، وكيف يعقل ذلك والخوف من الشيء والحزن على الشيء لا يحصل إلا بعد الشعور به ، والمستغرق في نور جلال الله غافل عن كل ما سوى الله تعالى ، فيمتنع أن يكون له خوف أو حزن ؟ وهذه درجة عالية ، ومن لم يذقها لم يعرفها .
ثم إن صاحب هذه الحالة قد تزول عنه الحالة ، وحينئذ يحصل له الخوف والحزن والرجاء والرغبة والرهبة بسبب الأحوال الجسمانية ، كما يحصل لغيره . وسمعت أن
إبراهيم الخواص كان بالبادية ومعه واحد يصحبه ، فاتفق في بعض الليالي ظهور حالة قوية وكشف تام له ، فجلس في موضعه وجاءت السباع ووقفوا بالقرب منه ، والمريد تسلق على رأس شجرة خوفا منها والشيخ ما كان فازعا من تلك السباع ، فلما أصبح وزالت تلك الحالة ، ففي الليلة الثانية وقعت بعوضة على يده فأظهر الجزع من تلك البعوضة ، فقال المريد : كيف تليق هذه الحالة بما قبلها ؟ فقال الشيخ : إنا إنما تحملنا البارحة ما تحملناه بسبب قوة الوارد الغيبي ، فلما غاب ذلك الوارد فأنا أضعف خلق الله تعالى .
المسألة الثانية : قال أكثر المحققين : إن
أهل الثواب لا يحصل لهم خوف في محفل القيامة ، واحتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى : (
ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) وبقوله تعالى : (
لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة ) [ الأنبياء : 103 ] وأيضا فالقيامة دار الجزاء فلا يليق به إيصال الخوف ، ومنهم من قال : بل يحصل فيه أنواع من الخوف ، وذكروا فيه أخبارا تدل عليه إلا أن
ظاهر القرآن أولى من خبر الواحد .