الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 103 ] وأما قوله : ( الذين آمنوا وكانوا يتقون ) ففيه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : النصب بكونه صفة للأولياء .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : النصب على المدح .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : الرفع على الابتداء وخبره لهم البشرى .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله تعالى : ( لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) ففيه أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : المراد منه الرؤيا الصالحة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه قال : " البشرى هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له " وعنه عليه الصلاة والسلام : " ذهبت النبوة وبقيت المبشرات " وعنه عليه الصلاة والسلام : " الرؤيا الصالحة من الله ، والحلم من الشيطان ، فإذا حلم أحدكم حلما يخافه فليتعوذ منه وليبصق عن شماله ثلاث مرات فإنه لا يضره " وعنه - صلى الله عليه وسلم - : " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة " وعن ابن مسعود : الرؤيا ثلاثة : الهم يهم به الرجل من النهار فيراه في الليل ، وحضور الشيطان ، والرؤيا التي هي الرؤيا الصادقة .

                                                                                                                                                                                                                                            وعن إبراهيم الرؤيا ثلاثة : فالمبشرة من الله جزء من سبعين جزءا من النبوة ، والشيء يهم به أحدكم بالنهار فلعله يراه بالليل ، والتخويف من الشيطان ، فإذا رأى أحدكم ما يحزنه فليقل : أعوذ بما عاذت به ملائكة الله من شر رؤياي التي رأيتها أن تضرني في دنياي أو في آخرتي .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنا إذا حملنا قوله : ( لهم البشرى ) على الرؤيا الصادقة فظاهر هذا النص يقتضي أن لا تحصل هذه الحالة إلا لهم ، والعقل أيضا يدل عليه ، وذلك لأن ولي الله هو الذي يكون مستغرق القلب والروح بذكر الله ، ومن كان كذلك فهو عند النوم لا يبقى في روحه إلا معرفة الله ، ومن المعلوم أن معرفة الله ونور جلال الله لا يفيده إلا الحق والصدق ، وأما من يكون متوزع الفكر على أحوال هذا العالم الكدر المظلم ، فإنه إذا نام يبقى كذلك ، فلا جرم لا اعتماد على رؤياه ، فلهذا السبب قال : ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) على سبيل الحصر والتخصيص .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : في تفسير البشرى ، أنها عبارة عن محبة الناس له وعن ذكرهم إياه بالثناء الحسن ; عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله إن الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس ! فقال : " تلك عاجل بشرى المؤمن " .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن المباحث العقلية تقوي هذا المعنى ، وذلك أن الكمال محبوب لذاته لا لغيره ، وكل من اتصف بصفة من صفات الكمال ، صار محبوبا لكل أحد ، ولا كمال للعبد أعلى وأشرف من كونه مستغرق القلب بمعرفة الله ، مستغرق اللسان بذكر الله ، مستغرق الجوارح والأعضاء بعبودية الله ، فإذا ظهر عليه أمر من هذا الباب ، صارت الألسنة جارية بمدحه ، والقلوب مجبولة على حبه ، وكلما كانت هذه الصفات الشريفة أكثر ، كانت هذه المحبة أقوى ، وأيضا فنور معرفة الله مخدوم بالذات ، ففي أي قلب حضر صار ذلك الإنسان مخدوما بالطبع ، ألا ترى أن البهائم والسباع قد تكون أقوى من الإنسان ، ثم إنها إذا شاهدت الإنسان هابته وفرت منه وما ذاك إلا لمهابة النفس الناطقة .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثالث : في تفسير البشرى أنها عبارة عن حصول البشرى لهم عند الموت قال تعالى : ( تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة ) [ فصلت : 30 ] وأما البشرى في الآخرة فسلام الملائكة عليهم كما قال تعالى : ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم ) [ الرعد : 23 ] وسلام الله عليهم كما قال : ( سلام قولا من رب رحيم ) [ يس : 58 ] ويندرج في هذا الباب ما ذكره الله في هذا الكتاب [ ص: 104 ] الكريم من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم ، وما يلقون فيها من الأحوال السارة ، فكل ذلك من المبشرات .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الرابع : أن ذلك عبارة عما بشر الله عباده المتقين في كتابه وعلى ألسنة أنبيائه من جنته وكريم ثوابه . ودليله قوله : ( يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان ) [ التوبة : 21 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن لفظ البشارة مشتق من خبر سار يظهر أثره في بشرة الوجه ، فكل ما كان كذلك دخل في هذه الآية ، ومجموع الأمور المذكورة مشتركة في هذه الصفة ، فيكون الكل داخلا فيه فكل ما يتعلق من هذه الوجوه بالدنيا فهو داخل تحت قوله : ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) وكل ما يتعلق بالآخرة فهو داخل تحت قوله : ( وفي الآخرة ) ثم إنه تعالى لما ذكر صفة أولياء الله وشرح أحوالهم قال تعالى : ( لا تبديل لكلمات الله ) والمراد أنه لا خلف فيها ، والكلمة والقول سواء ، ونظيره قوله : ( ما يبدل القول لدي ) [ ق : 29 ] وهذا أحد ما يقوي أن المراد بالبشرى وعد الله بالثواب والكرامة لمن أطاعه بقوله : ( يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان ) ثم بين تعالى أن : ( ذلك هو الفوز العظيم ) وهو كقوله تعالى : ( وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا ) [ الإنسان : 20 ] ثم قال القاضي : قوله : ( لا تبديل لكلمات الله ) يدل على أنها قابلة للتبديل ، وكل ما قبل العدم امتنع أن يكون قديما . ونظير هذا الاستدلال بحصول النسخ على أن حكم الله تعالى لا يكون قديما وقد سبق الكلام على أمثال هذه الوجوه .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية