(
وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون )
قوله تعالى (
وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون )
اعلم أن
موسى لما بالغ في إظهار المعجزات الظاهرة القاهرة ورأى القوم مصرين على الجحود والعناد والإنكار ، أخذ يدعو عليهم ، ومن حق من يدعو على الغير أن يذكر أولا سبب إقدامه على تلك الجرائم ، وكان جرمهم هو أنهم لأجل حبهم الدنيا تركوا الدين ; فلهذا السبب قال
موسى عليه السلام : (
ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا ) والزينة عبارة عن الصحة والجمال واللباس والدواب ، وأثاث البيت والمال ، وما يزيد على هذه الأشياء من الصامت والناطق .
ثم قال : (
ليضلوا عن سبيلك ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ
حمزة والكسائي وعاصم "ليضلوا " بضم الياء وقرأ الباقون بفتح الياء .
[ ص: 120 ] المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يضل الناس ويريد إضلالهم ، وتقريره من وجهين :
الأول : أن اللام في قوله : (
ليضلوا ) لام التعليل ، والمعنى : أن
موسى قال يا رب العزة إنك أعطيتهم هذه الزينة والأموال لأجل أن يضلوا ، فدل هذا على أنه تعالى قد يريد إضلال المكلفين .
الثاني : أنه قال : (
واشدد على قلوبهم ) فقال الله تعالى : (
قد أجيبت دعوتكما ) وذلك أيضا يدل على المقصود .
قال القاضي : لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم ويدل عليه وجوه :
الأول : أنه ثبت أنه تعالى منزه عن فعل القبيح ، وإرادة الكفر قبيحة .
والثاني : أنه لو أراد ذلك لكان الكفار مطيعين لله تعالى بسبب كفرهم ، لأنه لا معنى للطاعة إلا الإتيان بما يوافق الإرادة ولو كانوا كذلك لما استحقوا الدعاء عليهم بطمس الأموال وشد القلوب .
والثالث : أنا لو جوزنا أن يريد إضلال العباد ، لجوزنا أن يبعث الأنبياء - عليهم السلام - للدعاء إلى الضلال ، ولجاز أن يقوي الكذابين الضالين المضلين بإظهار المعجزات عليهم ، وفيه هدم الدين وإبطال الثقة بالقرآن .
والرابع : أنه لا يجوز أن يقول
لموسى وهارون عليهما السلام : (
فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) [ طه : 44 ] وأن يقول : (
ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون ) [ الأعراف : 130 ] ثم إنه تعالى أراد الضلالة منهم وأعطاهم النعم لكي يضلوا ; لأن ذلك كالمناقضة ، فلا بد من حمل أحدهما على موافقة الآخر .
الخامس : أنه لا يجوز أن يقال : إن
موسى - عليه السلام - دعا ربه بأن يطمس على أموالهم لأجل أن لا يؤمنوا مع تشدده في إرادة الإيمان .
واعلم أنا بالغنا في تكثير هذه الوجوه في مواضع كثيرة من هذا الكتاب .
وإذا ثبت هذا فنقول : وجب تأويل هذه الكلمة ، وذلك من وجوه :
الأول : أن اللام في قوله (
ليضلوا ) لام العاقبة ، كقوله تعالى : (
فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ) [ القصص : 8 ] ولما كانت
عاقبة قوم فرعون هو الضلال ، وقد أعلمه الله تعالى ، لا جرم عبر عن هذا المعنى بهذا اللفظ .
الثاني : أن قوله : (
ربنا ليضلوا عن سبيلك ) أي لئلا يضلوا عن سبيلك ، فحذف لا لدلالة المعقول عليه كقوله : (
يبين الله لكم أن تضلوا ) [ النساء : 176 ] والمراد أن لا تضلوا ، وكقوله تعالى : (
قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة ) [ الأعراف : 172 ] والمراد لئلا تقولوا ، ومثل هذا الحذف كثير في الكلام .
الثالث : أن يكون
موسى - عليه السلام - ذكر ذلك على سبيل التعجب المقرون بالإنكار والتقدير كأنك آتيتهم ذلك الغرض ، فإنهم لا ينفقون هذه الأموال إلا فيه ، وكأنه قال : آتيتهم زينة وأموالا لأجل أن يضلوا عن سبيل الله ، ثم حذف حرف الاستفهام كما في قول الشاعر :
كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا
أراد أكذبتك ، فكذا ههنا .
الرابع : قال بعضهم : هذه اللام لام الدعاء ، وهي لام مكسورة تجزم المستقبل ، ويفتتح بها الكلام ، فيقال ليغفر الله للمؤمنين ، وليعذب الله الكافرين ، والمعنى ربنا ابتلهم بالضلال عن سبيلك .
الخامس : أن هذه اللام لام التعليل ، لكن بحسب ظاهر الأمر لا في نفس الحقيقة ، وتقريره أنه تعالى لما أعطاهم هذه الأموال وصارت تلك الأموال سببا لمزيد البغي والكفر ، أشبهت هذه الحالة حالة من أعطى المال لأجل الإضلال ، فورد هذا الكلام بلفظ التعليل لأجل هذا المعنى .
السادس : بينا في تفسير قوله تعالى : (
يضل به كثيرا ) في أول سورة البقرة أن الضلال قد جاء في القرآن بمعنى الهلاك ، يقال : الماء
[ ص: 121 ] في اللبن ، أي هلك فيه .