الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            إذا ثبت هذا فنقول : قوله : ( ربنا ليضلوا عن سبيلك ) معناه : ليهلكوا ويموتوا ، ونظيره قوله تعالى : ( فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ) [ التوبة : 55 ] فهذا جملة ما قيل في هذا الباب .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنا قد أجبنا عن هذه الوجوه مرارا كثيرة في هذا الكتاب ، ولا بأس بأن نعيد بعضها في هذا المقام فنقول : الذي يدل على أن حصول الإضلال من الله تعالى وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن العبد لا يقصد إلا حصول الهداية ، فلما لم تحصل الهداية بل حصل الضلال الذي لا يريده ، علمنا أن حصوله ليس من العبد بل من الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قالوا : إنه ظن بهذا الضلال أنه هدى ، فلا جرم قد أوقعه وأدخله في الوجود .

                                                                                                                                                                                                                                            فنقول : فعلى هذا يكون إقدامه على تحصيل هذا الجهل بسبب الجهل السابق ، فلو كان حصول ذلك الجهل السابق بسبب جهل آخر لزم التسلسل وهو محال ، فثبت أن هذه الجهالات والضلالات لا بد من انتهائها إلى جهل أول ، وضلال أول ، وذلك لا يمكن أن يكون بإحداث العبد وتكوينه ، لأنه كرهه وإنما أراد ضده ، فوجب أن يكون من الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : إنه تعالى لما خلق الخلق بحيث يحبون المال والجاه حبا شديدا لا يمكنه إزالة هذا الحب عن نفسه ألبتة ، وكان حصول هذا الحب يوجب الإعراض عمن يستخدمه ويوجب التكبر عليه وترك الالتفات إلى قوله ، وذلك يوجب الكفر ، فهذه الأشياء بعضها يتأدى إلى البعض تأديا على سبيل اللزوم ، وجب أن يكون فاعل هذا الكفر هو الذي خلق الإنسان مجبولا على حب المال والجاه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : وهو الحجة الكبرى أن القدرة بالنسبة إلى الضدين على السوية ، فلا يترجح أحد الطرفين على الثاني إلا لمرجح ، وذلك المرجح ليس من العبد وإلا لعاد الكلام فيه ، فلا بد وأن يكون من الله تعالى ، وإذا كان كذلك كانت الهداية والإضلال من الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أنه تعالى أعطى فرعون وقومه زينة وأموالا ، وقوى حب ذلك المال والجاه في قلوبهم ، وأودع في طباعهم نفرة شديدة عن خدمة موسى - عليه السلام - والانقياد له ، لا سيما وكان فرعون كالمنعم في حقه والمربي له ، والنفرة عن خدمة من هذا شأنه راسخة في القلوب ، وكل ذلك يوجب إعراضهم عن قبول دعوة موسى - عليه السلام - وإصرارهم على إنكار صدقه ، فثبت بالدليل العقلي أن إعطاء الله تعالى فرعون وقومه زينة الدنيا وأموال الدنيا لا بد وأن يكون موجبا لضلالهم ، فثبت أن ما أشعر به ظاهر اللفظ فقد ثبت صحته بالعقل الصريح ، فكيف يمكن ترك ظاهر اللفظ في مثل هذا المقام ، وكيف يحسن حمل الكلام على الوجوه المتكلفة الضعيفة جدا .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول :

                                                                                                                                                                                                                                            أما الوجه الأول : وهو حمل اللام على لام العاقبة فضعيف ، لأن موسى - عليه السلام - ما كان عالما بالعواقب .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قالوا : إن الله تعالى أخبره بذلك . قلنا : فلما أخبر الله عنهم أنهم لا يؤمنون كان صدور الإيمان منهم محالا ، لأن ذلك يستلزم انقلاب خبر الله كذبا ، وهو محال ، والمفضي إلى المحال محال

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 122 ] وأما الوجه الثاني : وهو قولهم يحمل قوله ( ليضلوا عن سبيلك ) على أن المراد لئلا يضلوا عن سبيلك ، فنقول : إن هذا التأويل ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره . وأقول : إنه لما شرع في تفسير قوله تعالى : ( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) ثم نقل عن بعض أصحابنا أنه قرأ " فمن نفسك " على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار ، ثم إنه استبعد هذه القراءة ، وقال : إنها تقتضي تحريف القرآن وتغييره ، وتفتح باب تأويلات الباطنية ، وبالغ في إنكار تلك القراءة ، وهذا الوجه الذي ذكره ههنا شر من ذلك ؛ لأنه قلب النفي إثباتا ، والإثبات نفيا ، وتجويزه يفتح باب أن لا يبقى الاعتماد على القرآن لا في نفيه ولا في إثباته ، وحينئذ يبطل القرآن بالكلية ، هذا بعينه هو الجواب عن قوله : المراد منه الاستفهام بمعنى الإنكار ، فإن تجويزه يوجب تجويز مثله في سائر المواطن ، فلعله تعالى إنما قال : ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) [البقرة : 110 ] على سبيل الإنكار والتعجب ، وأما بقية الجوابات فلا يخفى ضعفها .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إنه تعالى حكى عن موسى - عليه السلام - أنه قال : ( ربنا اطمس على أموالهم ) وذكرنا معنى الطمس عند قوله تعالى : ( من قبل أن نطمس وجوها ) [ النساء : 47 ] والطمس هو المسخ . قال ابن عباس - رضي الله عنه ما : بلغنا أن الدراهم والدنانير ، صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا ، وجعل سكرهم حجارة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية