ثم قال تعالى : (
وابيضت عيناه من الحزن ) وفيه وجهان :
الوجه الأول : أنه لما قال : يا أسفى على
يوسف غلبه البكاء ، وعند غلبة البكاء يكثر الماء في العين فتصير العين كأنها ابيضت من بياض ذلك الماء ، وقوله : (
وابيضت عيناه من الحزن ) كناية عن غلبة البكاء ، والدليل على صحة هذا القول أن تأثير الحزن في غلبة البكاء لا في حصول العمى ، فلو حملنا الابيضاض على غلبة البكاء كان هذا التعليل حسنا ، ولو حملناه على العمى لم يحسن هذا التعليل ، فكان ما ذكرناه أولى ، وهذا التفسير مع الدليل رواه
الواحدي في "البسيط" عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما .
والوجه الثاني : أن المراد هو العمى ، قال
مقاتل : لم يبصر بهما ست سنين حتى كشف الله تعالى عنه بقميص
يوسف عليه السلام ، وهو قوله : (
فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا ) ( يوسف : 93 ) .
قيل : إن
جبريل عليه السلام دخل على
يوسف عليه السلام حينما كان في السجن ، فقال : إن بصر أبيك ذهب من الحزن عليك ؛ فوضع يده على رأسه وقال : ليت أمي لم تلدني ولم أك حزنا على أبي ، والقائلون بهذا التأويل قالوا : الحزن الدائم يوجب البكاء الدائم وهو يوجب العمى ، فالحزن كان سببا للعمى بهذه الواسطة ، وإنما كان البكاء الدائم يوجب العمى ، لأنه يورث كدورة في سوداء العين ، ومنهم من قال : ما عمي لكنه صار بحيث يدرك إدراكا ضعيفا .
قيل :
ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف عليه السلام إلى حين لقائه ، وتلك المدة ثمانون عاما ، وما كان على وجه الأرض عبد أكرم على الله تعالى من
يعقوب عليه السلام .
أما قوله تعالى : (
من الحزن ) فاعلم أنه قرئ ( من الحزن ) بضم الحاء وسكون الزاي ، وقرأ
الحسن بفتح الحاء والزاي .
قال
الواحدي : واختلفوا في الحزن والحزن فقال قوم : الحزن : البكاء ، والحزن : ضد الفرح ، وقال قوم : هما لغتان يقال : أصابه حزن شديد ، وحزن شديد ، وهو مذهب أكثر أهل اللغة ، وروى
يونس ، عن
أبي عمرو ، قال : إذا كان في موضع النصب فتحوا الحاء والزاي كقوله : (
تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ) ( التوبة : 92 ) وإذا كان في موضع الخفض أو الرفع ضموا الحاء كقوله : (
من الحزن ) وقوله : (
أشكو بثي وحزني إلى الله ) قال : هو في موضع رفع بالابتداء .
وأما قوله تعالى : (
فهو كظيم ) فيجوز أن يكون بمعنى الكاظم ، وهو الممسك على حزنه فلا يظهره .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة : ويجوز أن يكون بمعنى المكظوم ، ومعناه : المملوء من الحزن مع سد طريق نفسه ، المصدور من كظم السقاء إذا اشتد على ملئه ، ويجوز أيضا أن يكون بمعنى مملوء من الغيظ على أولاده .
واعلم أن أشرف أعضاء الإنسان هذه الثلاثة ، فبين تعالى أنها كانت غريقة في الغم ، فاللسان كان
[ ص: 157 ] مشغولا بقوله : (
ياأسفى ) والعين بالبكاء والبياض ، والقلب بالغم الشديد الذي يشبه الوعاء المملوء الذي شد ولا يمكن خروج الماء منه ، وهذه مبالغة في وصف ذلك الغم .