(
الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد ) .
قوله تعالى : (
الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد ) .
[ ص: 60 ] في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ
نافع وابن عامر [الله] مرفوعا بالابتداء وخبره ما بعده ، وقيل التقدير : هو الله ، والباقون بالجر عطفا على قوله : (
العزيز الحميد ) وهاهنا بحث ، وهو أن جماعة من المحققين ذهبوا إلى أن قولنا " الله " جار مجرى الاسم العلم لذات الله تعالى ، وذهب قوم آخرون إلى أنه لفظ مشتق ، والحق عندنا هو الأول ، ويدل عليه وجوه :
الأول : أن
الاسم المشتق عبارة عن شيء ما حصل له المشتق منه ، فالأسود مفهومه شيء ما حصل له السواد ، والناطق مفهومه شيء ما حصل له النطق ، فلو كان قولنا الله اسما مشتقا من معنى ، لكان المفهوم منه أنه شيء ما حصل له ذلك المشتق منه ، وهذا المفهوم كلي لا يمتنع من حيث هو هو عن وقوع الشركة فيه ، فلو كان قولنا الله لفظا مشتقا لكان مفهومه صالحا لوقوع الشركة فيه ، ولو كان الأمر كذلك لما كان قولنا : لا إله إلا الله موجبا للتوحيد ؛ لأن المستثنى هو قولنا : الله وهو غير مانع من وقوع الشركة فيه ، ولما اجتمعت الأمة على أن قولنا : لا إله إلا الله يوجب التوحيد المحض ، علمنا أن قولنا الله جار مجرى الاسم العلم.
الثاني : أنه كلما أردنا أن نذكر سائر الصفات والأسماء ذكرنا أولا قولنا : الله ، ثم وصفناه بسائر الصفات ، كقولنا هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس ، ولا يمكننا أن نعكس الأمر ، فنقول : الرحمن الرحيم الله ، فعلمنا أن الله هو اسم علم للذات المخصوصة ، وسائر الألفاظ دالة على الصفات والنعوت.
الثالث : أن ما سوى قولنا الله كلها دالة ، إما على الصفات السلبية ، كقولنا : القدوس السلام ، أو على الصفات الإضافية ، كقولنا الخالق الرازق أو على الصفات الحقيقية ، كقولنا : العالم القادر ، أو على ما يتركب من هذه الثلاثة ، فلو لم يكن قولنا : الله اسما للذات المخصوصة لكان جميع أسماء الله تعالى ألفاظا دالة على صفاته ، ولم يحصل فيها ما يدل على ذاته المخصوصة وذلك بعيد ؛ لأنه يبعد أن لا يكون له من حيث إنه هو اسم مخصوص.
والرابع : قوله تعالى : (
هل تعلم له سميا ) [مريم : 65] والمراد هل تعلم من اسمه الله غير الله ، وذلك يدل على أن قولنا "الله" اسم لذاته المخصوصة ، وإذا ظهرت هذه المقدمة ، فالترتيب
الحسن أن يذكر عقيبه الصفات ، كقوله تعالى : (
هو الله الخالق البارئ المصور ) [الحشر : 24] فأما أن يعكس فيقال : هو الخالق المصور البارئ الله ، فذلك غير جائز .
وإذا ثبت هذا فنقول : الذين قرءوا : (الله الذي له ما في السماوات ) بالرفع أرادوا أن يجعلوا قوله : ( الله ) مبتدأ ويجعلوا ما بعده خبرا عنه ، وهذا هو الحق الصحيح ، فأما الذين قرءوا : (
الله ) بالجر عطفا على : (
العزيز الحميد ) فهو مشكل لما بينا أن الترتيب
الحسن أن يقال : الله الخالق ، وأما أن يقال : الخالق الله فهذا لا يحسن ، وعند هذا اختلفوا في الجواب على وجوه :
الأول : قال
nindex.php?page=showalam&ids=12114أبو عمرو بن العلاء : القراءة بالخفض على التقديم والتأخير ، والتقدير : صراط الله العزيز الحميد الذي له ما في السماوات.
والثاني : أنه لا يبعد أن يذكر الصفة أولا ، ثم يذكر الاسم ثم يذكر الصفة مرة أخرى ، كما يقال : مررت بالإمام الأجل محمد الفقيه ، وهو بعينه نظير قوله : (
صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات ) وتحقيق القول فيه : أنا بينا أن الصراط إنما يكون ممدوحا محمودا إذا كان صراطا للعالم القادر الغني ، والله تعالى عبر عن هذه الأمور الثلاثة بقوله : (
العزيز الحميد ) ثم لما ذكر هذا المعنى وقعت الشبهة في أن ذلك العزيز من هو؟ فعطف عليها قوله : (
الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ) إزالة لتلك الشبهة.
الثالث : قال صاحب "الكشاف" : الله عطف بيان للعزيز الحميد ، وتحقيق هذا القول ما قررناه فيما تقدم .
الرابع : قد ذكرنا في أول هذا الكتاب أن قولنا : الله
[ ص: 61 ] في أصل الوضع مشتق ، إلا أنه بالعرف صار جاريا مجرى الاسم العلم ، فحيث يبدأ بذكره ويعطف عليه سائر الصفات ، فذلك لأجل أنه جعل اسم علم ، وأما في هذه الآية حيث جعل وصفا للعزيز الحميد ، فذاك لأجل أنه حمل على كونه لفظا مشتقا فلا جرم بقي صفة.
الخامس : أن الكفار ربما وصفوا الوثن بكونه عزيزا حميدا ، فلما قال : (
لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ) بقي في خاطر عبدة الأوثان أنه ربما كان ذلك العزيز الحميد هو الوثن ، فأزال الله تعالى هذه الشبهة ، وقال : (
الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ) أي المراد من ذلك العزيز الحميد هو الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض.