قوله تعالى : (
أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المقصود من هذا الكلام أن إبليس تكبر على
آدم وترفع عليه لما ادعى أن أصله أشرف من أصل
آدم ، فوجب أن يكون هو أشرف من
آدم ، فكأنه تعالى قال لأولئك الكافرين الذين افتخروا على فقراء المسلمين بشرف نسبهم وعلو منصبهم : إنكم في هذا القول اقتديتم بإبليس في تكبره على
آدم فلما علمتم أن إبليس عدو لكم ، فكيف تقتدون به في هذه الطريقة المذمومة ؟ هذا هو تقرير الكلام .
فإن قيل : إن هذا الكلام لا يتم إلا بإثبات مقدمات :
فأولها : إثبات إبليس .
وثانيها : إثبات ذرية إبليس .
وثالثها : إثبات
عداوة بين إبليس وذريته وبين أولاد آدم .
ورابعها : أن هذا القول الذي قاله أولئك الكفار اقتدوا فيه بإبليس .
وكل هذه المقدمات الأربعة لا سبيل إلى إثباتها إلا بقول النبي
محمد -صلى الله عليه وسلم- : فالجاهل بصدق النبي جاهل بها ، إذا عرفت هذا فنقول : المخاطبون بهذه الآيات هل عرفوا كون
محمد نبيا صادقا أو ما عرفوا ذلك ؟ فإن عرفوا كونه نبيا صادقا قبلوا قوله في كل ما يقوله فكلما نهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قول انتهوا عنه ، وحينئذ فلا حاجة إلى قصة إبليس وإن لم يعرفوا كونه نبيا جهلوا كل هذه المقدمات الأربعة ، ولم يعرفوا صحتها فحينئذ لا يكون في إيرادها عليهم فائدة ، والجواب : أن المشركين كانوا قد سمعوا قصة إبليس
وآدم من أهل الكتاب واعتقدوا صحتها وعلموا أن إبليس إنما تكبر على
آدم بسبب نسبه ، فإذا أوردنا عليهم هذه القصة كان ذلك زاجرا لهم عما أظهروه مع فقراء المسلمين من التكبر والترفع .
المسألة الثانية : قال
الجبائي : في هذه الآية دلالة على
أنه تعالى لا يريد الكفر ولا يخلقه في العبد ، إذ لو أراده وخلقه فيه ، ثم عاقبه عليه ، لكان ضرر إبليس أقل من ضرر الله عليهما ، فكيف يوبخهم بقوله : (
بئس للظالمين بدلا ) ؟ ! تعالى الله عنه علوا كبيرا ، بل على هذا المذهب : لا ضرر البتة من إبليس بل الضرر كله من الله . والجواب : المعارضة بالداعي والعلم .
المسألة الثالثة : إنما قال للكفار المفتخرين بأنسابهم وأموالهم على فقراء المسلمين :
أفتتخذون إبليس وذريته أولياء من دون الله ؛ لأن الداعي لهم إلى ترك دين
محمد -صلى الله عليه وسلم- هو النخوة وإظهار العجب ، فهذا يدل على أن كل من أقدم على عمل أو قول بناء على هذا الداعي ، فهو متبع لإبليس حتى أن من كان غرضه في إظهار العلم والمناظرة التفاخر والتكبر والترفع ، فهو مقتد بإبليس ، وهو مقام صعب غرق فيه أكثر الخلق ، فنسأل الله الخلاص منه ، ثم قال تعالى : (
بئس للظالمين بدلا ) أي بئس البدل من الله إبليس لمن استبدله به ، فأطاعه بدل طاعته ، ثم قال : (
ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : اختلفوا في أن الضمير في قوله : (
ما أشهدتهم ) إلى من يعود ؟ فيه وجوه :
أحدها : -وهو الذي ذهب إليه الأكثرون- أن المعنى ما أشهدت الذي اتخذتموهم أولياء خلق السماوات والأرض ، ولا أشهدت بعضهم خلق بعض ، كقوله : (
اقتلوا أنفسكم ) ( النساء : 66 ) يعني ما أشهدتهم لأعتضد بهم ، والدليل عليه قوله : (
وما كنت متخذ المضلين عضدا ) أي وما كنت متخذهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر بيانا لإضلالهم وقوله : (
عضدا ) أي أعوانا .
وثانيها : -وهو أقرب عندي- أن الضمير عائد إلى الكفار الذين قالوا
[ ص: 118 ] للرسول -صلى الله عليه وسلم- إن لم تطرد من مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك ، فكأنه تعالى قال : إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم بدليل قوله تعالى : (
ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ) ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة ، بل هم قوم كسائر الخلق ، فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد ؟ ونظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة ، فإنك تقول له : لست بسلطان البلد ولا ذرية المملكة حتى نقبل منك هذه الاقتراحات الهائلة ، فلم تقدم عليها ؟ والذي يؤكد هذا أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات ، وفي هذه الآية المذكورة الأقرب هو ذكر أولئك الكفار ، وهو قوله تعالى : (
بئس للظالمين بدلا ) والمراد بالظالمين أولئك الكفار .
وثالثها : أن يكون المراد من قوله : (
ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ) كون هؤلاء الكفار جاهلين بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة والشقاوة . فكأنه قيل لهم :
السعيد من حكم الله بسعادته في الأزل ، والشقي من حكم الله بشقاوته في الأزل ، وأنتم غافلون عن أحوال الأزل ، كأنه تعالى قال : (
ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ) وإذا جهلتم هذه الحالة فكيف يمكنكم أن تحكموا لأنفسكم بالرفعة والعلو والكمال ولغيركم بالدناءة والذل ؟ بل ربما صار الأمر في الدنيا والآخرة على العكس فيما حكمتم به .
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" قرئ وما كنت بالفتح ، والخطاب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، والمعنى : وما صح لك الاعتضاد بهم ، وما ينبغي لك أن تعتز بهم ، وقرأ
علي رضوان الله عليه : ( متخذا المضلين ) بالتنوين على الأصل ، وقرأ
الحسن : ( عضدا ) بسكون الضاد ونقل ضمتها إلى العين ، وقرئ : ( عضدا ) بالفتح وسكون الضاد ( وعضدا ) بضمتين ( وعضدا ) بفتحتين جمع عاضد ، كخادم وخدم ، وراصد ورصد ، من عضده إذا قواه وأعانه ، واعلم أنه تعالى لما قرر أن القول الذي قالوه في الافتخار على الفقراء اقتداء بإبليس عاد بعده إلى التهويل بأحوال يوم القيامة ، فقال : (
ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم ) وفيه أبحاث :
البحث الأول : قرأ
حمزة : ( نقول ) بالنون عطفا على قوله : (
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) و(
أولياء من دوني ) و(
ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا ) والباقون قرءوا بالياء .
البحث الثاني : واذكر يوم نقول عطفا على قوله : (
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا ) .
البحث الثالث : المعنى : واذكر لهم يا
محمد أحوالهم وأحوال آلهتهم يوم القيامة إذ يقول الله لهم : (
نادوا شركائي ) أي ادعوا من زعمتم أنهم شركاء لي حيث أهلتموهم للعبادة ، ادعوهم يشفعوا لكم وينصروكم والمراد بالشركاء الجن ، فدعوهم ، ولم يذكر تعالى في هذه الآية أنهم كيف دعوا الشركاء ؛ لأنه تعالى بين ذلك في آية أخرى ، وهو أنهم قالوا : (
إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا ) ( غافر : 47 ) ثم قال تعالى : (
فلم يستجيبوا لهم ) أي لم يجيبوهم إلى ما دعوهم إليه ، ولم يدفعوا عنهم ضررا وما أوصلوا إليهم نفعا ، ثم قال تعالى : (
وجعلنا بينهم موبقا ) وفيه وجوه :
الأول : قال صاحب "الكشاف" : الموبق المهلك من وبق يبق وبوقا ووبقا ، إذا هلك وأوبقه غيره ، فيجوز أن يكون مصدرا كالمورد والموعد ، وتقرير هذا الوجه أن يقال : إن هؤلاء المشركين الذين اتخذوا من دون الله آلهة كالملائكة
وعيسى دعوا هؤلاء فلم يستجيبوا لهم
[ ص: 119 ] ثم حيل بينهم وبينهم فأدخل الله تعالى هؤلاء المشركين جهنم ، وأدخل
عيسى الجنة ، وصار الملائكة إلى حيث أراد الله من دار الكرامة ، وحصل بين أولئك الكفار وبين الملائكة
وعيسى عليه السلام هذا الموبق ، وهو ذلك الوادي في جهنم .
الوجه الثاني : قال
الحسن : ( موبقا ) أي عداوة ، والمعنى : عداوة هي في شدتها هلاك ، ومنه قوله : لا يكن حبك كلفا ، ولا بغضك تلفا .
الوجه الثالث : قال
الفراء : البين المواصلة أي جعلنا مواصلتهم في الدنيا هلاكا في يوم القيامة .
الوجه الرابع : الموبق البرزخ البعيد أي جعلنا بين هؤلاء الكفار وبين الملائكة
وعيسى برزخا بعيدا يهلك فيه الساري لفرط بعده ؛ لأنهم في قعر جهنم ، وهم في أعلى الجنان ، ثم قال تعالى : (
ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ) وفي هذا الظن قولان :
الأول : أن الظن ههنا بمعنى العلم واليقين .
والثاني : وهو الأقرب أن المعنى أن هؤلاء
الكفار يرون النار من مكان بعيد ، فيظنون أنهم مواقعوها في تلك الساعة من غير تأخير ومهلة ، لشدة ما يسمعون من تغيظها وزفيرها ، كما قال : (
إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا ) ( الفرقان : 12 ) وقوله : (
مواقعوها ) أي مخالطوها ، فإن مخالطة الشيء لغيره إذا كانت قوية تامة ، يقال لها : مواقعة ، ثم قال تعالى : (
ولم يجدوا عنها مصرفا ) أي لم يجدوا عن النار معدلا إلى غيرها ؛ لأن الملائكة تسوقهم إليها .