(
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا ) .
قوله تعالى : (
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا ) .
اعلم أنه تعالى لما أقام الحجة على مشركي
قريش المنكرين للبعث أتبعه بالوعيد على ما تقدم ذكره عنهم أنهم عارضوا حجة الله بكلام فقالوا : لو كنتم أنتم على الحق وكنا على الباطل ؛ لكان حالكم في الدنيا أحسن وأطيب من حالنا ؛ لأن الحكيم لا يليق به أن يوقع أولياءه المخلصين في العذاب والذل وأعداءه المعرضين عن خدمته في العز والراحة ، ولما كان الأمر بالعكس فإن الكفار كانوا في النعمة والراحة والاستعلاء ، والمؤمنين كانوا في ذلك الوقت في الخوف والذل دل على أن الحق ليس مع المؤمنين ، هذا حاصل شبهتهم في هذا الباب ونظيره قوله تعالى : (
لو كان خيرا ما سبقونا إليه ) [ الأحقاف : 11 ] ويروى أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنون ويتطيبون ويتزينون بالزينة الفاخرة ، ثم يدعون مفتخرين على فقراء المسلمين أنهم أكرم على الله منهم . بقي بحثان :
الأول : قوله : (
آياتنا بينات ) يحتمل وجوها :
أحدها : أنها مرتلات الألفاظ مبينات المعاني إما محكمات أو متشابهات فقد تبعها البيان بالمحكمات أو بتبيين الرسول قولا أو فعلا .
وثانيها : أنها ظاهرات الإعجاز تحدي بها فما قدروا على معارضتها .
وثالثها : المراد بكونها آيات بينات أي دلائل ظاهرة واضحة لا يتوجه عليها سؤال ولا اعتراض مثل قوله تعالى في
إثبات صحة الحشر : (
أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ) [ مريم : 67 ] .
البحث الثاني : قرأ
ابن كثير : ( مقاما ) بالضم وهو موضع الإقامة والمنزل ، والباقون بالفتح وهو موضع القيام ، والمراد بالندي المجلس يقال : ندي وناد ، والجمع الأندية ، ومنه قوله : (
وتأتون في ناديكم المنكر ) [ العنكبوت : 29 ] وقال : (
فليدع ناديه ) [ العلق : 17 ] ويقال : ندوت القوم أندوهم إذا جمعتهم في المجلس ، ومنه دار الندوة
بمكة وكانت مجتمع القوم . ثم أجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله : (
وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا ) .
وتقرير هذا الجواب أن يقال : إن من كان أعظم نعمة منكم في الدنيا قد أهلكهم الله تعالى وأبادهم ، فلو دل حصول نعم الدنيا للإنسان على كونه حبيبا لله تعالى ؛ لوجب في حبيب الله أن لا يوصل إليه غما في الدنيا ووجب عليه أن لا يهلك أحدا من المنعمين في دار الدنيا وحيث أهلكهم دل إما على فساد المقدمة الأولى
[ ص: 211 ] وهي أن من وجد الدنيا كان حبيبا لله تعالى ، أو على فساد المقدمة الثانية وهي أن حبيب الله لا يوصل الله إليه غما ، وعلى كلا التقديرين فيفسد ما ذكرتموه من الشبهة ، بقي البحث عن تفسير الألفاظ فنقول : أهل كل عصر قرن لمن بعدهم ؛ لأنهم يتقدمونهم ، و (هم أحسن) في محل النصب صفة ( لكم ) ، ألا ترى أنك لو تركت هم لم يكن لك بد من نصب ( أحسن ) على الوصفية ، والأثاث متاع البيت ، أما رئيا فقرئ على خمسة أوجه ؛ لأنها إما أن تقرأ بالراء التي ليس فوقها نقطة ، أو بالزاي التي فوقها نقطة ، فأما الأول فإما أن يجمع بين الهمزة والياء أو يكتفى بالياء . أما إذا جمع بين الهمزة والياء ففيه وجهان :
أحدهما : بهمزة ساكنة بعدها ياء وهو المنظر والهيئة فعل بمعنى مفعول من رأيت رئيا .
والثاني : ريئا على القلب كقولهم راء في رأى ، أما إن اكتفينا بالياء فتارة بالياء المشددة على قلب الهمزة ياء ، والإدغام ، أو من الري : الذي هو النعمة والترفه ، من قولهم : ريان من النعيم .
والثاني : بالياء على حذف الهمزة رأسا ووجهه أن يخفف المقلوب وهو ريئا بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الياء الساكنة قبلها ، وأما بالزاي المنقطة من فوق زيا فاشتقاقه من الزي وهو الجمع ؛ لأن الزي محاسن مجموعة ، والمعنى أحسن من هؤلاء ، والله أعلم .