(
قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا ) .
قوله تعالى : (
قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا ) .
اعلم أن الله تعالى لما أمر
موسى - عليه السلام - بالذهاب إلى
فرعون وكان ذلك تكليفا شاقا فلا جرم سأل ربه أمورا ثمانية ، ثم ختمها بما يجري مجرى العلة لسؤال تلك الأشياء .
المطلوب الأول : قوله : (
رب اشرح لي صدري ) واعلم أنه يقال شرحت الكلام أي بينته وشرحت صدره أي وسعته والأول يقرب منه ؛ لأن شرح الكلام لا يحصل إلا ببسطه . والسبب في هذا السؤال ما حكى الله تعالى عنه في موضع آخر وهو قوله : (
ويضيق صدري ولا ينطلق لساني ) [ الشعراء : 13 ] فسأل الله تعالى أن يبدل ذلك الضيق بالسعة ، وقال : (
رب اشرح لي صدري ) فأفهم عنك ما أنزلت علي من الوحي ، وقيل :
[ ص: 28 ] شجعني لأجترئ به على مخاطبة
فرعون ثم الكلام فيه يتعلق بأمور :
أحدها : فائدة الدعاء وشرائطه .
وثانيها : ما السبب في أن الإنسان لا يذكر وقت الدعاء من أسماء الله تعالى إلا الرب .
وثالثها : ما معنى شرح الصدر .
ورابعها : بماذا يكون شرح الصدر .
وخامسها : كيف كان
شرح الصدر في حق موسى - عليه السلام -
ومحمد - صلى الله عليه وسلم - .
وسادسها : صفة صدر
موسى - عليه السلام - هل كان منشرحا أو لم يكن منشرحا ، فإن كان منشرحا كان طلب شرح الصدر تحصيلا للحاصل وهو محال ، وإن لم يكن منشرحا فهو باطل من وجهين :
الأول : أنه سبحانه بين له فيما تقدم كل ما يتعلق بالأديان من معرفة الربوبية والعبودية وأحوال المعاد ، وكل ما يتعلق بشرح الصدر في باب الدين فقد حصل ، ثم إنه سبحانه تلطف له بقوله : (
وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى ) ثم كلمه على سبيل الملاطفة بقوله : (
وما تلك بيمينك ياموسى ) ثم أظهر له المعجزات العظيمة والكرامات الجسيمة ، ثم أعطاه منصب الرسالة بعد أن كان فقيرا ، وكل ما يتعلق به الإعزاز والإكرام فقد حصل ، ولو أن ذرة من هذه المناصب حصلت لأدون الناس لصار منشرح الصدر فبعد حصولها لكليم الله تعالى يستحيل أن لا يصير منشرح الصدر .
والثاني : أنه لما لم يصر منشرح الصدر بعد هذه الأشياء لم يجز من الله تعالى تفويض النبوة إليه فإن من كان ضيق القلب مشوش الخاطر لا يصلح للقضاء على ما قال - عليه السلام - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013204لا يقضي القاضي وهو غضبان " فكيف يصلح للنبوة التي أقل مراتبها القضاء ؟ فهذا مجموع الأمور التي لا بد من البحث عنها في هذه الآية .
أما البحث الأول : وهو فائدة الدعاء وشرائطه فقد تقدم في تفسير قوله : (
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) [ البقرة : 286 ] إلا أنه نذكر منها ههنا بعض الفوائد المتعلقة بهذا الموضع فنقول : اعلم أن للكمال مراتب ودرجات وأعلاها أن يكون كاملا في ذاته مكملا لغيره ، أما كونه كاملا في ذاته فكل ما كان كذلك كان كماله من لوازم ذاته ، وكل ما كان كذلك كان كاملا في الأزل ولكنه يستحيل أن يكون مكملا في الأزل ؛ لأن التكميل عبارة عن جعل الشيء كاملا ، وذلك لا يتحقق إلا عند عدم الكمال ، فإنه لو كان حاصلا في الأزل لاستحال التأثير فيه ، فإن تحصيل الحاصل محال وتكوين الكائن ممتنع فلا جرم أنه سبحانه ، وإن كان كاملا في الأزل إلا أنه يصير مكملا فيما لا يزال ، فإن قيل : إذا كان التكميل من صفات الكمال فحيث لم يكن مكملا في الأزل فقد كان عاريا عن صفات الكمال فيكون ناقصا وهو محال ، قلنا : النقصان إنما يلزم لو كان ذلك ممكنا في الأزل لكنا بينا أن الفعل الأزلي محال فالتكميل الأزلي محال فعدمه لا يكون نقصانا ، كما أن قولنا : إنه لا يقدر على تكوين مثل نفسه لا يكون نقصانا ؛ لأنه غير ممكن الوجود في نفسه ، وكقولنا : إنه لا يعلم عددا مفصلا كحركات أهل الجنة ؛ لأن كل ما له عدد مفصل فهو متناه ، وحركات أهل الجنة غير متناهية فلا يكون له عدد مفصل ، فامتنع ذلك لا لقصور في العلم ، بل لكونه في نفسه ممتنع الحصول . إذا ثبت هذا فنقول : إنه سبحانه وتعالى لما قصد إلى التكوين وكان الغرض منه تكميل الناقصين ؛ لأن الممكنات قابلة للوجود وصفة الوجود صفة كمال فاقتضت قدرة الله تعالى على التكميل وضع مائدة الكمال للممكنات فأجلس على المائدة بعض المعدومات دون البعض لأسباب :
أحدها : أن المعدومات غير متناهية فلو أجلس الكل على مائدة الوجود لدخل ما لا نهاية له في
[ ص: 29 ] الوجود .
وثانيها : أنه لو أوجد الكل لما بقي بعد ذلك قادرا على الإيجاد لأن إيجاد الموجود محال ، فكان ذلك وإن كان كمالا للناقص لكنه يقتضي نقصان الكامل فإنه ينقلب القادر من القدرة إلى العجز .
وثالثها : أنه لو دخل الكل في الوجود لما بقي فيه تمييز فلا يتميز القادر على الموجب ، والقدرة كمال والإيجاب بالطبع نقصان ، فلهذه الأسباب أخرج بعض الممكنات إلى الوجود فإن قيل عليه سؤالان :
أحدهما : أن الموجودات متناهية والمعدومات غير متناهية ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي ، فتكون أيضا الضيافة ضيافة للأقل ، وأما الحرمان فإنه عدد لما لا نهاية له ، وهذا لا يكون وجودا .
الثاني : أن البعض الذي خصه بهذه الضيافة إن كان لاستحقاق حصل فيه دون غيره فذلك الاستحقاق ممن حصل ؟ وإن كان لا لهذا الاستحقاق كان ذلك عبثا وهو محال كما قيل :
يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما
وإنه لا يليق بأكرم الأكرمين . والجواب عن الكل أن هذه الشبهات إنما تدور في العقول والخيالات لأن الإنسان يحاول قياس فعله على فعلنا ، وذلك باطل لأنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
إذا عرفت هذا فهذا الوجود الفائض من نور رحمته على جميع الممكنات هو الضيافة العامة والمائدة الشاملة وهو المراد من قوله : (
ورحمتي وسعت كل شيء ) [ الأعراف : 156 ] ثم إن الموجودات انقسمت إلى الجمادات وإلى الحيوانات ، ولا شك أن الجماد بالنسبة إلى الحيوان كالعدم بالنسبة إلى الوجود لأن الجماد لا خبر عنده من وجوده فوجوده بالنسبة إليه كالعدم وعدمه كالوجود ، وأما الحيوان فهو الذي يميز بين الموجود والمعدوم ويتفاوتان بالنسبة إليه ، ولأن الجماد بالنسبة إلى الحيوان آلة ، لأن الحيوانات تستعمل الجمادات في أغراض أنفسها ومصالحها وهي كالعبد المطيع المسخر ، والحيوان كالمالك المستولي ، فكانت الحيوانية أفضل من الجمادية فكما أن إحسان الله ورحمته اقتضيا وضع مائدة الوجود لبعض المعدومات دون البعض كذلك اقتضيا وضع مائدة الحياة لبعض الموجودات دون البعض ، فلا جرم جعل بعض الموجودات أحياء دون البعض .
والحياة بالنسبة إلى الجمادية كالنور بالنسبة إلى الظلمة ، والبصر بالنسبة إلى العمى ، والوجود بالنسبة إلى العدم ، فعند ذلك صار بعض الموجودات حيا مدركا للمنافي والملائم واللذة والألم والخير والشر ، فمن ثم قالت الأحياء عند ذلك : يا رب الأرباب إنا وإن وجدنا خلعة الوجود وخلعة الحياة وشرفتنا بذلك ، لكن ازدادت الحاجة لأنا حال العدم وحال الجمادية ما كنا نحتاج إلى الملائم والموافق وما كنا نخاف المنافي والمؤذي ، ولما حصل الوجود والحياة احتجنا إلى طلب الملائم ودفع المنافي ، فإن لم تكن لنا قدرة على الهرب والطلب والدفع والجذب لبقينا كالزمن المقعد على الطريق عرضة للآفات وهدفا لسهام البليات فأعطنا من خزائن رحمتك القدرة والقوة التي بها نتمكن من الطلب تارة والهرب أخرى ، فاقتضت الرحمة التامة تخصيص بعض الأحياء بالقدرة ، كما اقتضت تخصيص بعض الموجودات بالحياة وتخصيص بعض المعدومات بالوجود .
فقال القادرون عند ذلك : إلهنا الجواد الكريم إن الحياة والقدرة بلا عقل لا تكون إلا لأحد القسمين إما للمجانين المقيدين بالسلاسل والأغلال ، وإما للبهائم المستعملة في حمل الأثقال وكل ذلك من صفات النقصان وأنت قد رقيتنا من حضيض النقصان إلى أوج الكمال فأفض علينا من العقل الذي هو أشرف مخلوقاتك وأعز مبدعاتك الذي شرفته بقولك : " بك أهين وبك أثيب وبك أعاقب " حتى نفوز من خزائن رحمتك بالخلع الكاملة والفضيلة التامة ، فأعطاهم العقل وبعث في أرواحهم نور البصيرة وجوهر الهداية
[ ص: 30 ] فعند هذه الدرجة فازوا بالخلع الأربعة ، الوجود والحياة والقدرة والعقل .
فالعقل خاتم الكل والخاتم يجب أن يكون أفضل ألا ترى أن رسولنا صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم النبيين كان أفضل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والإنسان لما كان خاتم المخلوقات الجسمانية كان أفضلها ، فكذلك العقل لما كان خاتم الخلع الفائضة من حضرة ذي الجلال كان أفضل الخلع وأكملها ، ثم نظر العقل في نفسه فرأى نفسه كالجفنة المملوءة من الجواهر النفيسة بل كأنها سماء مملوءة من الكواكب الزاهرة وهي العلوم الضرورية البديهية المركوزة في بداءة العقول وصرائح الأذهان ، وكما أن الكواكب المركوزة في السماوات علامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، فكذلك الجواهر المركوزة في سماء العقل كواكب زاهرة يهتدي بها السائرون في ظلمات عالم الأجسام إلى أنوار العالم الروحانية وفسحة السماوات وأضوائها .
فلما نظر العقل إلى تلك الكواكب الزاهرة والجواهر الباهرة رأى رقم الحدوث على تلك الجواهر وعلى جميع تلك الخلع فاستدل بتلك الأرقام على راقم ، وبتلك النقوش على ناقش ، وعند ذلك عرف أن النقاش بخلاف النقش ، والباني بخلاف البناء ، فانفتح له من أعلى سماء عالم المحدثات روازن إلى أضواء لوائح عالم القدم ، وطالع عالم القدم الأزلية والجلال ، وكان العقل إنما نظر إلى أضواء عالم الأزلية من ظلمات عالم الحدوث والإمكان فغلبته دهشة أنوار الأزلية فعميت عيناه فبقي متحيرا فالتجأ بطبعه إلى مفيض الأنوار ، فقال : (
رب اشرح لي صدري ) فإن البحار عميقة والظلمات متكاثفة ، وفي الطريق قطاع من الأعداء الداخلة والخارجة ، وشياطين الإنس والجن كثيرة ، فإن لم تشرح لي صدري ولم تكن لي عونا في كل الأمور ؛ انقطعت وصارت هذه الخلع سببا لنيل الآفات لا للفوز بالدرجات . فهذا هو المراد من قوله : (
رب اشرح لي صدري ) .
ثم قال : (
ويسر لي أمري ) وذلك لأن كل ما يصدر من العبد من الأفعال والأقوال والحركات والسكنات فما لم يصر العبد مريدا له استحال أن يصير فاعلا له ، فهذه الإرادة صفة محدثة ولا بد لها من فاعل ، وفاعلها إن كان هو العبد افتقر في تحصيل تلك الإرادة إلى إرادة أخرى ، ولزم التسلسل بل لا بد من الانتهاء إلى إرادة يخلقها مدبر العالم فيكون في الحقيقة هو الميسر للأمور وهو المتمم لجميع الأشياء ، وتمام التحقيق أن حدوث الصفة لا بد له من قابل وفاعل فعبر عن استعداد القابل بقوله : (
رب اشرح لي صدري ) ، وعبر عن حصول الفاعل بقوله : (
ويسر لي أمري ) ، وفيه التنبيه على أنه سبحانه وتعالى هو الذي يعطي القابل قابليته والفاعل فاعليته ؛ ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يقولون : يا مبتدئا بالنعم قبل استحقاقها .
ومجموع هذين الكلامين كالبرهان القاطع على أن جميع الحوادث في هذا العالم واقعة بقضائه وقدره وحكمته وقدرته . ويمكن أن يقال أيضا : كأن
موسى عليه السلام قال : إلهي لا أكتفي بشرح الصدر ، ولكن أطلب منك تنفيذ الأمر وتحصيل الغرض ; فلهذا قال : (
ويسر لي أمري ) ، أو يقال : إنه سبحانه وتعالى لما أعطاه الخلع الأربع ، وهي الوجود والحياة والقدرة والعقل ، فكأنه قال له : يا
موسى أعطيتك هذه الخلع الأربع فلا بد في مقابلتها من خدمات أربع لتقابل كل نعمة بخدمة . فقال
موسى عليه السلام : ما تلك الخدمات ؟ فقال : (
وأقم الصلاة لذكري ) ، فإن فيها أنواعا أربعة من الخدمة ، القيام والقراءة والركوع والسجود ، فإذا أتيت بالصلاة فقد قابلت كل نعمة بخدمة .
ثم إنه تعالى لما أعطاه الخلعة الخامسة وهي خلعة الرسالة قال : (
رب اشرح لي صدري ) حتى أعرف أني بأي خدمة أقابل هذه النعمة فقيل له بأن تجتهد في أداء هذه الرسالة على الوجه المطلوب ، فقال
موسى : يا رب إن هذا لا يتأتى مني مع عجزي وضعفي وقلة آلاتي وقوة خصمي فاشرح لي صدري ويسر لي أمري .