الفصل الثالث : في قوله : (
رب اشرح لي صدري ) وفيه وجوه :
أحدها : أنه تعالى لما خاطبه بالأشياء الستة [ التي ] :
أحدها : معرفة التوحيد : (
إنني أنا الله لا إله إلا أنا ) .
وثانيها : أمره بالعبادة والصلاة : (
فاعبدني وأقم الصلاة لذكري ) .
وثالثها : معرفة الآخرة : (
إن الساعة آتية ) .
ورابعها : حكمة أفعاله في الدنيا : (
وما تلك بيمينك ياموسى ) .
وخامسها : عرض المعجزات الباهرة عليه : (
لنريك من آياتنا الكبرى ) .
وسادسها : إرساله إلى أعظم الناس كفرا وعتوا فكانت هذه التكاليف الشاقة سببا للقهر فأراد
موسى عليه السلام جبر هذا القهر بالمعجز فعرفه أن كل من سأله قرب منه فقال : (
رب اشرح لي صدري ) فأراد جبر القهر الحاصل من هذه التكاليف بالقرب منه فقال : (
رب اشرح لي صدري ) أو يقال خاف شياطين الإنس والجن ، فدعا ليصل بسبب الدعاء إلى مقام القرب فيصير مأمونا من غوائل شياطين الجن والإنس .
وثانيها : أن المراد أنه أراد الذهاب إلى
فرعون وقومه فأراد أن يقطع طمع الخلق عن نفسه بالكلية فعرف أن من دعا ربه قربه له وقربه لديه فحينئذ تنقطع الأطماع بالكلية فقال : (
رب اشرح لي صدري ) .
وثالثها : الوجود كالنور ، والعدم كالظلمة وكل ما سوى الله تعالى فهو عدم محض ، فكل شيء هالك إلا وجهه ، فالكل كأنهم في ظلمات العدم وإظلال عالم الأجسام والإمكان فقال : (
رب اشرح لي صدري ) حتى يجلس قلبي في بهي ضوء المعرفة وسادة شرح الصدر ، والجالس في الضوء لا يرى من كان جالسا في الظلمة فحين جلس في ضوء شرح الصدر لا يرى أحدا في الوجود فلهذا عقبه بقوله : (
ويسر لي أمري ) فإن العبد في مقام الاستغراق لا يتفرغ لشيء من المهمات .
ورابعها : (
رب اشرح لي صدري ) فإن عين العين ضعيفة فأطلع يا إلهي شمس التوفيق حتى أرى كل شيء كما
[ ص: 35 ] هو ، وهذا في معنى قول
محمد صلى الله عليه وسلم : "
أرنا الأشياء كما هي " واعلم أن شرح الصدر مقدمة لسطوع الأنوار الإلهية في القلب ، والاستماع مقدمة الفهم الحاصل من سماع الكلام ، فالله تعالى أعطى
موسى عليه السلام المقدمة الثانية وهي (
فاستمع لما يوحى ) فلا جرم نسج
موسى على ذلك المنوال فطلب المقدمة الأخرى فقال : (
رب اشرح لي صدري ) ولما آل الأمر إلى
محمد صلى الله عليه وسلم قيل له : (
وقل رب زدني علما ) [ طه : 114 ] والعلم هو المقصود ، فلما كان
موسى عليه السلام كالمقدمة لمقدم
محمد صلى الله عليه وسلم لا جرم أعطي المقدمة ، ولما كان
محمد كالمقصود لا جرم أعطي المقصود ، فسبحانه ما أدق حكمته في كل شيء .
وسادسها : الداعي له صفتان :
إحداهما : أن يكون عبدا للرب : (
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ) [ البقرة : 186 ] .
وثانيتهما : أن يكون الرب له : (
وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ) [ غافر : 60 ] أضاف نفسه إلينا وما أضافنا إلى نفسه ، والمشتغل بالدعاء قد صار كاملا من هذين الوجهين ، فأراد
موسى عليه السلام أن يرتع في هذا البستان فقال : (
رب اشرح لي صدري ) .
وسابعها :
أن موسى عليه السلام شرفه الله تعالى بقوله : (
وقربناه نجيا ) [ مريم : 52 ] فكأن
موسى عليه السلام قال : إلهي لما قلت : (
وقربناه نجيا ) صرت قريبا منك ، ولكن أريد قربك مني فقال : يا
موسى أما سمعت قولي : (
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ) [ البقرة : 186 ] فاشتغل بالدعاء حتى أصير قريبا منك فعند ذلك قال : (
رب اشرح لي صدري ) .
وثامنها : قال
موسى عليه السلام : (
رب اشرح لي صدري ) وقال
لمحمد صلى الله عليه وسلم : (
ألم نشرح لك صدرك ) [ الشرح : 1 ] ثم إنه تعالى ما تركه على هذه الحالة بل قال : (
وسراجا منيرا ) [ الأحزاب : 46 ] فانظر إلى التفاوت ، فإن شرح الصدر هو أن يصير الصدر قابلا للنور ، والسراج المنير هو أن يعطي النور ،
فالتفاوت بين موسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم كالتفاوت بين الآخذ والمعطي ثم نقول : إلهنا إن ديننا وهي كلمة لا إله إلا الله نور ، والوضوء نور ، والصلاة نور ، والقبر نور ، والجنة نور ، فبحق أنوارك التي أعطيتنا في الدنيا لا تحرمنا أنوار فضلك وإحسانك يوم القيامة .