الحجة الخامسة :
الروحانيات نورانية علوية لطيفة ،
والجسمانيات ظلمانية سفلية كثيفة ، وبدائية العقول تشهد بأن النور أشرف من الظلمة ، والعلوي خير من السفلي ، واللطيف أكمل من الكثيف .
الاعتراض : هذا كله إشارة إلى المادة وعندنا سبب الشرف الانقياد لأمر رب العالمين على ما قال : (
قل الروح من أمر ربي ) وادعاء الشرف بسبب شرف المادة هو حجة اللعين الأول ، وقد قيل له ما قيل .
الحجة السادسة : الروحانيات السماوية فضلت الجسمانيات بقوى العلم والعمل ، أما العلم فلاتفاق الحكماء على إحاطة الروحانيات السماوية بالمغيبات واطلاعها على مستقبل الأمور ، وأيضا فعلومهم فعلية فطرية كلية دائمة . وعلوم البشر على الضد في كل ذلك ، وأما العمل فلأنهم مواظبون على الخدمة دائما يسبحون الليل والنهار لا يفترون لا يلحقهم نوم العيون ولا سهو العقول ، ولا غفلة الأبدان ، طعامهم التسبيح وشرابهم التقديس والتحميد والتهليل وتنفسهم بذكر الله وفرحتهم بخدمة الله ، متجردون من العلائق البدنية غير محجوبين بشيء من القوى الشهوانية والغضبية ، فأين أحد القسمين من الآخر ؟ .
الاعتراض : لا نزاع في كل ما ذكرتموه إلا أن ههنا دقيقة وهي أن المواظب على تناول الأغذية اللطيفة لا يلتذ بها كما يلتذ المبتلى بالجوع أياما كثيرة ، فالملائكة بسبب مواظبتهم على تلك الدرجات العالية لا يجدون من اللذة مثل ما يجد البشر الذين يكونون في أكثر الأوقات محجوبين بالعلائق الجسمانية والحجب الظلمانية فهذه المزية من اللذة مما يختص بها البشر ، ولعل هذا هو المراد من قوله تعالى : (
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ) [الأحزاب : 72] فإن إدراك الملائم بعد الابتلاء بالمنافي ألذ من إدراك الملائم على سبيل الدوام ، ولذلك قالت الأطباء : إن الحرارة في حمى الدق أشد منها في حمى الغب ، لكن حرارة الحمى في الدق إذا دامت واستقرت بطل الشعور بها فهذه الحالة لم تحصل للملائكة ؛ لأن
[ ص: 211 ] كمالاتها دائمة ولم تحصل لسائر الأجسام ؛ لأنها كانت خالية عن القوة المستعدة لإدراك المجردات فلم يبق شيء ممن يقوى على تحمل هذه الأمانة إلا البشر .
الحجة السابعة : الروحانيات لهم قوة على تصريف الأجسام وتقليب الأجرام ، والقوة التي هي لهم ليست من جنس القوى المزاجية حتى يعرض لها كلال ولغوب ، ثم إنك ترى الخامة اللطيفة من الزرع في بدء نموها تفتق الحجر وتشق الصخر ، وما ذاك إلا لقوة نباتية فاضت عليها من جواهر القوى السماوية فما ظنك بتلك القوى السماوية ، والروحانيات هي التي تتصرف في الأجسام السفلية تقليبا وتصريفا لا يستثقلون حمل الأثقال ولا يستصعبون تحريك الجبال ، فالرياح تهب بتحريكاتها والسحاب تعرض وتزول بتصريفها ، وكذا الزلازل تقع في الجبال بسبب من جهتها ، والشرائع ناطقة بذلك على ما قال تعالى : (
فالمقسمات أمرا ) [الذاريات : 4] والعقول أيضا دالة عليه والأرواح السفلية ليست كذلك ، فأين أحد القسمين من الآخر .
والذي يقال إن الشياطين التي هي الأرواح الخبيثة تقدر على ذلك ممنوع ، وبتقدير التسليم فلا نزاع في أن قدرة الملائكة على ذلك أشد وأكمل ؛ ولأن الأرواح الطيبة الملكية تصرف قواها إلى مناظم هذا العالم السفلي ومصالحها ، والأرواح الخبيثة تصرف قواها إلى الشرور ، فأين أحدهما من الآخر ؟
الاعتراض : لا يبعد أن يتفق في النفوس الناطقة البشرية نفس قوية كاملة مستعلية على الأجرام العنصرية بالتقليب والتصريف ، فما الدليل على امتناع مثل هذه النفس .
الحجة الثامنة : الروحانيات لها اختيارات فائضة من أنوار جلال الله عز وجل متوجهة إلى الخيرات ، مقصورة على نظام هذا العالم لا يشوبها البتة شائبة الشر ، والفساد بخلاف اختيارات البشر فإنها مترددة بين جهتي العلو والسفالة وطرفي الخير ، وميلهم إلى الخيرات إنما يحصل بإعانة الملائكة على ما ورد في الأخبار من أن لكل إنسان ملكا يسدده ويهديه .
الاعتراض : هذا يدل على أن الملائكة كالمجبورين على طاعاتهم ، والأنبياء مترددون بين الطرفين ، والمختار أفضل من المجبور وهذا ضعيف ؛ لأن التردد ما دام يبقى استحال صدور الفعل وإذا حصل الترجيح التحق بالموجب ، فكان للأنبياء خيرات بالقوة وبواسطة الملائكة تصير خيرات بالفعل ، أما الملائكة فهم خيرات بالفعل فأين هذا من ذاك ؟ .
الحجة التاسعة : الروحانيات مختصة بالهياكل وهي السيارات السبعة وسائر الثوابت ، والأفلاك كالأبدان ، والكواكب كالقلوب ، والملائكة كالأرواح فنسبة الأرواح إلى الأرواح كنسبة الأبدان إلى الأبدان ، ثم إنا نعلم أن اختلافات أحوال الأفلاك مبادئ لحصول الاختلافات في أحوال هذا العالم فإنه يحصل من حركات الكواكب اتصالات مختلفة من التسديس والتثليث والتربيع والمقابلة والمقاربة وكذا مناطق الأفلاك تارة تصير منطبقة بعضها على البعض ، وذلك هو الرتق فحينئذ يبطل عمارة العالم وأخرى ينفصل بعضها عن البعض فتنتقل العمارة من جانب من هذا العالم العلوي مستولية على هياكل العالم السفلي ، فكذا أرواح العالم السفلي لا سيما وقد دلت المباحث الحكمية والعلوم الفلسفية على أن أرواح هذا العالم معلولات لأرواح العالم العلوي ، وكمالات هذه الأرواح معلولات لكمالات تلك الأرواح ، ونسبة هذه الأرواح إلى تلك الأرواح كالشعلة الصغيرة بالنسبة إلى قرص الشمس ، وكالقطرة الصغيرة بالنسبة إلى البحر الأعظم ، فهذه هي الآثار ، وهناك المبدأ ، والمعاد فكيف يليق القول بادعاء المساواة فضلا عن الزيادة ؟ .
الاعتراض : كل ما ذكرتموه
[ ص: 212 ] منازع فيه لكن بتقدير تسليمه فالبحث باق بعد ؛ لأنا بينا أن الوصول إلى اللذيذ بعد الحرمان ألذ من الوصول إليه على سبيل الدوام فهذه الحالة غير حاصلة إلا للبشر .
الحجة العاشرة : قالوا الروحانيات الفلكية مبادئ لروحانيات هذا العالم ومعادلها ، والمبدأ أشرف من ذي المبدأ ؛ لأن كل كمال يحصل لذي المبدأ فهو مستفاد من المبدأ ، والمستفيد أقل حالا من الواجب ، وكذلك المعاد يجب أن يكون أشرف ، فعالم الروحانيات عالم الكمال فالمبدأ منها والمعاد إليها والمصدر عنها والمرجع إليها ، وأيضا فإن الأرواح إنما نزلت من عالمها حتى اتصلت بالأبدان فتوسخت بأوضار الأجسام ثم تطهرت عنها بالأخلاق الزكية والأعمال المرضية حتى انفصلت عنها إلى عالمها الأول ، فالنزول هو النشأة الأولى والصعود هو النشأة الأخرى فعرف أن الروحانيات أشرف من الأشخاص البشرية .
الاعتراض : هذه الكلمات بنيتموها على نفي المعاد ، ونفي حشر الأجساد ودونهما خرط القتاد .
الحجة الحادية عشرة : أليس أن الأنبياء صلوات الله عليهم اتفقت كلمتهم على أنهم لا ينطقون بشيء من المعارف والعلوم إلا بعد الوحي فهذا اعتراف بأن علومهم مستفادة منهم أليس أنهم اتفقوا على أن الملائكة هم الذين يعينونهم على أعدائهم كما في قلع مدائن قوم
لوط وفي يوم
بدر ، وهم الذين يهدونهم إلى مصالحهم كما في قصة
نوح في نجر السفينة ، فإذا اتفقوا على ذلك فمن أين وقع لكم أن فضلتموهم على الملائكة مع تصريحهم فافتقارهم إليهم في كل الأمور ؟ .