الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثانية عشرة : التقسيم العقلي قد دل على أن الأحياء إما أن تكون خيرة محضة أو شريرة محضة ، أو تكون خيرة من وجه شريرة من وجه ، فالخير المحض هو النوع الملكي ، والشرير المحض هو النوع الشيطاني ، والمتوسط بين الأمرين هو النوع البشري ، وأيضا فإن الإنسان هو الناطق المائت وعلى جانبيه قسمان آخران :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : الناطق الذي لا يكون مائتا وهو الملك : والآخر المائت الذي لا يكون ناطقا وهم البهائم ، فقسمة العقل على هذا الوجه قد دلت على كون البشر في الدرجة المتوسطة من الكمال ، والملك يكون في الطرف الأقصى من الكمال ، فالقول بأن البشر أفضل قلب للقسمة العقلية ومنازعة في ترتيب الوجود .

                                                                                                                                                                                                                                            الاعتراض : إن المراد من الفضل هو كثرة الثواب فلم قلتم إن الملك أكثر ثوابا ؟ فهذا محصل ما قيل في هذا الباب من الوجوه العقلية ، وبالله التوفيق .

                                                                                                                                                                                                                                            واحتج من قال بفضل الأنبياء على الملائكة بأمور : أحدها : أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم وثبت أن آدم لم يكن كالقبلة بل كانت السجدة في الحقيقة له ، وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون آدم أفضل منهم ؛ لأن السجود نهاية التواضع وتكليف الأشرف بنهاية التواضع للأدون مستقبح في العقول ، فإنه يقبح أن يؤمر أبو حنيفة بأن يخدم أقل الناس بضاعة في الفقه ، فدل هذا على أن آدم عليه السلام كان أفضل من الملائكة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن الله تعالى جعل آدم عليه السلام خليفة له والمراد منه خلافة الولاية لقوله تعالى : ( ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ) [ص : 26] ومعلوم أن أعلى الناس منصبا عند الملك من كان قائما مقامه في الولاية والتصرف ، وكان خليفة له فهذا يدل على أن آدم عليه السلام كان أشرف الخلائق وهذا متأكد بقوله : وسخر لكم ما في البر والبحر ، ثم أكد هذا التعميم بقوله : ( خلق لكم ما في الأرض جميعا ) فبلغ آدم في منصب الخلافة إلى أعلى الدرجات ، فالدنيا خلقت متعة لبقائه ، والآخرة مملكة [ ص: 213 ] لجزائه ، وصارت الشياطين ملعونين بسبب التكبر عليه ، والجن رعيته والملائكة في طاعته وسجوده والتواضع له ، ثم صار بعضهم حافظين له ولذريته وبعضهم منزلين لرزقه وبعضهم مستغفرين لزلاته ، ثم إنه سبحانه وتعالى يقول مع هذه المناصب العالية : ( ولدينا مزيد ) [ق : 35] فإذن لا غاية لهذا الكمال والجلال .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن آدم عليه السلام كان أعلم ، والأعلم أفضل ، أما إنه أعلم ؛ فلأنه تعالى لما طلب منهم علم الأسماء : ( قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ) فعند ذلك قال الله تعالى : ( قال ياآدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم ) وذلك يدل على أنه عليه السلام كان عالما بما لم يكونوا عالمين به ، وأما أن الأعلم أفضل فلقوله تعالى : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) [الزمر : 9] .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : قوله تعالى : ( إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ) [آل عمران : 33] والعالم عبارة عن كل ما سوى الله تعالى ؛ وذلك لأن اشتقاق العالم على ما تقدم من العلم فكل ما كان علما على الله ودالا عليه فهو عالم ، ولا شك أن كل محدث فهو دليل على الله تعالى فكل محدث فهو عالم فقوله : ( إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ) معناه أن الله تعالى اصطفاهم على كل المخلوقات ولا شك أن الملائكة من المخلوقات فهذه الآية تقتضي أن الله تعالى اصطفى هؤلاء الأنبياء على الملائكة .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : يشكل هذا بقوله تعالى : ( يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ) [البقرة : 122] فإنه لا يلزم أن يكونوا أفضل من الملائكة ومن محمد صلى الله عليه وسلم ، فكذا ههنا قال الله تعالى في حق مريم عليها السلام : ( إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ) [آل عمران : 42] ولم يلزم كونها أفضل من فاطمة عليها السلام فكذا ههنا قلنا : الإشكال مدفوع ؛ لأن قوله تعالى : ( وأني فضلتكم على العالمين ) خطاب مع الأنبياء الذين كانوا أسلاف اليهود ، وحين ما كانوا موجودين لم يكن محمد موجودا في ذلك الزمان ، ولما لم يكن موجودا لم يكن من العالمين ؛ لأن المعدوم لا يكون من العالمين ، وإذا كان كذلك لم يلزم من اصطفاء الله تعالى إياهم على العالمين في ذلك الوقت أن يكونوا أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم ، وأما جبريل عليه السلام فإنه كان موجودا حين قال الله تعالى : ( إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ) فلزم أن يكون قد اصطفى الله تعالى هؤلاء على جبريل عليه السلام ، وأيضا فهب أن تلك الآية قد دخلها التخصيص لقيام الدلالة وههنا فلا دليل يوجب ترك الظاهر ، فوجب إجراؤه على ظاهره في العموم .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : قوله تعالى : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) [الأنبياء : 107] والملائكة من جملة العالمين فكان محمد عليه السلام رحمة لهم فوجب أن يكون محمد أفضل منهم .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : أن عبادة البشر أشق فوجب أن يكونوا أفضل ، وإنما قلنا إنها أشق لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الآدمي له شهوة داعية إلى المعصية ، والملك ليست له هذه الشهوة ، والفعل مع المعارض القوي أشد منه بدون المعارض ، فإن قيل : الملائكة لهم شهوة تدعوهم إلى المعصية وهي شهوة الرياسة قلنا : هب أن الأمر كذلك لكن البشر لهم أنواع كثيرة من الشهوات مثل شهوة البطن والفرج والرياسة ، والملك ليس له من تلك الشهوات إلا شهوة واحدة وهي شهوة الرياسة ، والمبتلى بأنواع كثيرة من الشهوات تكون الطاعة عليه أشق من المبتلى بشهوة [ ص: 214 ] واحدة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن الملائكة لا يعملون إلا بالنص لقوله تعالى : ( لا علم لنا إلا ما علمتنا ) [البقرة : 32] وقال : ( لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ) [الأنبياء : 27] والبشر لهم قوة الاستنباط والقياس قال تعالى : ( فاعتبروا ياأولي الأبصار ) [الحشر : 2] وقال معاذ : اجتهدت برأيي فصوبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ومعلوم أن العمل بالاستنباط أشق من العمل بالنص .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن الشبهات للبشر أكثر مما للملائكة ؛ لأن من جملة الشبهات القوية كون الأفلاك والأنجم السيارة أسبابا لحوادث هذا العالم ، فالبشر احتاجوا إلى دفع هذه الشبهة والملائكة لا يحتاجون ؛ لأنهم ساكنون في عالم السماوات فيشاهدون كيفية افتقارها إلى المدبر الصانع .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أن الشيطان لا سبيل له إلى وسوسة الملائكة وهو مسلط على البشر في الوسوسة ، وذلك تفاوت عظيم إذا ثبت أن طاعتهم أشق فوجب أن يكونوا أكثر ثوابا بالنص ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : " أفضل العبادات أحمزها " أي أشقها ، وأما القياس فلأنا نعلم أن الشيخ الذي لم يبق له ميل إلى النساء إذا امتنع عن الزنا فليست فضيلته كفضيلة من يمتنع عنهن مع الميل الشديد والشوق العظيم فكذا ههنا .

                                                                                                                                                                                                                                            وسابعها : أن الله تعالى خلق الملائكة عقولا بلا شهوة ، وخلق البهائم شهوات بلا عقل ، وخلق الآدمي وجمع فيه بين الأمرين ، فصار الآدمي بسبب العقل فوق البهيمة بدرجات لا حد لها فوجب أن يصير بسبب الشهوة دون الملائكة ، ثم وجدنا الآدمي إذا غلب هواه عقله حتى صار يعمل بهواه دون عقله فإنه يصير دون البهيمة على ما قال تعالى : ( أولئك كالأنعام بل هم أضل ) [الأعراف : 179] ولذلك صار مصيرهم إلى النار دون البهائم فيجب أن يقال إذا غلب عقله هواه حتى صار لا يعمل بهوى نفسه شيئا بل يعمل بهوى عقله أن يكون فوق الملائكة اعتبارا لأحد الطرفين بالآخر .

                                                                                                                                                                                                                                            وثامنها : أن الملائكة حفظة وبنو آدم محفوظون والمحفوظ أعز وأشرف من الحافظ فيجب أن يكون بنو آدم أكرم وأشرف على الله تعالى من الملائكة .

                                                                                                                                                                                                                                            وتاسعها : ما روي أن جبريل عليه السلام أخذ بركاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى أركبه على البراق ليلة المعراج ، وهذا يدل على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل منه ، ولما وصل محمد عليه الصلاة والسلام إلى بعض المقامات تخلف عنه جبريل عليه السلام ، وقال : " لو دنوت أنملة لاحترقت " .

                                                                                                                                                                                                                                            وعاشرها : قوله عليه الصلاة والسلام : " إن لي وزيرين في السماء ووزيرين في الأرض ، أما اللذان في السماء فجبريل وميكائيل ، وأما اللذان في الأرض فأبو بكر وعمر " فدل هذا الخبر على أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان كالملك وجبريل وميكائيل كانا كالوزيرين له ، والملك أفضل من الوزير فلزم أن يكون محمد أفضل من الملك .

                                                                                                                                                                                                                                            هذا تمام القول في دلائل من فضل البشر على الملك .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية