(
من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون )
قوله تعالى : (
من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون )
اعلم أنه تعالى لما بين أن الدار الآخرة ليست لمن يريد علوا في الأرض ولا فسادا ، بل هي للمتقين بين بعد ذلك ما يحصل لهم فقال : (
من جاء بالحسنة فله خير منها ) وفيه وجوه .
أحدها : المعنى من جاء بالحسنة حصل له من تلك الكلمة خير .
وثانيها : حصل له شيء هو أفضل من تلك الحسنة ، ومعناه أنهم يزادون على ثوابهم وقد مر تفسيره في آخر النمل ، وأما قوله : (
ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون ) فظاهره أن لا يزادوا على ما يستحقون .
وإذا صح ذلك في السيئات دل أن المراد في الحسنات بما هو خير منها ما ذكرناه من مزيد الفضل على الثواب ، قال صاحب "الكشاف" تقدير الآية :
ومن جاء بالسيئة فلا يجزون إلا ما كانوا يعملون ، لكنه كرر ذلك ؛ لأن في إسناد عمل السيئة إليهم مكررا فضل تهجين لحالهم وزيادة تبغيض للسيئة إلى قلوب السامعين ، وهذا من فضله العظيم أنه لا يجزي بالسيئة إلا مثلها ، ويجزي بالحسنة عشر أمثالها ، وههنا سؤالان :
[ ص: 19 ] السؤال الأول : قال تعالى : (
إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ) (الإسراء : 7) كرر ذلك الإحسان واكتفى بذكر الإساءة بمرة واحدة ، وفي هذه الآية كرر ذكر الإساءة مرتين واكتفى في ذكر الإحسان بمرة واحدة ، فما السبب ؟ الجواب : لأن هذا المقام مقام الترغيب في الدار الآخرة ، فكانت المبالغة في الزجر عن المعصية لائقة بهذا الباب ؛ لأن المبالغة في الزجر عن المعصية مبالغة في الدعوة إلى الآخرة .
وأما الآية الأخرى فهي شرح حالهم فكانت المبالغة في ذكر محاسنهم أولى .
السؤال الثاني : كيف قال : لا تجزى السيئة إلا بمثلها ؟ مع أن المتكلم بكلمة الكفر إذا مات في الحال عذب أبد الآباد .
والجواب : لأنه كان على عزم أنه لو عاش أبدا لقال ذلك فعومل بمقتضى عزمه . قال
الجبائي : وهذا يدل على
بطلان مذهب من يجوز على الله تعالى أن يعذب الأطفال عذابا دائما بغير جرم ، قلنا : لا يجوز أن يفعله وليس في الآية ما يدل عليه ، ثم إنه سبحانه لما شرح لرسوله أمر القيامة واستقصى في ذلك ، شرح له ما يتصل بأحواله فقال : (
إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) قال
أبو علي : الذي فرض عليك أحكامه وفرائضه لرادك بعد الموت إلى معاد ، وتنكير المعاد لتعظيمه ، كأنه قال إلى معاد وأي معاد ، أي ليس لغيرك من البشر مثله . وقيل : المراد به
مكة ، ووجهه أن يراد برده إليها يوم الفتح ، ووجه تنكيره أنها كانت في ذلك اليوم معادا له شأن عظيم لاستيلاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليها وقهره لأهلها وإظهار عز الإسلام وإذلال حزب الكفر ، والسورة مكية ، فكأن الله تعالى وعده وهو
بمكة في أذى وغلبة من أهلها أنه يهاجر منها ويعيده إليها ظاهرا ظافرا .
وقال
مقاتل : إنه عليه السلام خرج من الغار وسار في غير الطريق مخافة الطلب ، فلما أمن رجع إلى الطريق ونزل
بالجحفة بين
مكة والمدينة ، وعرف الطريق إلى
مكة واشتاق إليها وذكر مولده ومولد أبيه ، فنزل
جبريل عليه السلام وقال : تشتاق إلى بلدك ومولدك ، فقال عليه السلام : نعم ، فقال
جبريل عليه السلام : فإن الله تعالى يقول : (
إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) يعني إلى
مكة ظاهرا عليهم وهذا أقرب ؛ لأن ظاهر المعاد أنه كان فيه وفارقه وحصل العود ، وذلك لا يليق إلا
بمكة ، وإن كان سائر الوجوه محتملا لكن ذلك أقرب
قال أهل التحقيق : وهذا أحد ما يدل على نبوته ؛ لأنه
أخبر عن الغيب ووقع كما أخبر فيكون معجزا ، ثم قال (
قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين ) ووجه تعلقه بما قبله أن
الله تعالى وعد رسوله الرد إلى معاد ، قال : (
قل ) للمشركين (
ربي أعلم من جاء بالهدى ) يعني نفسه وما يستحقه من الثواب في المعاد والإعزاز بالإعادة إلى
مكة (
ومن هو في ضلال مبين ) يعنيهم وما يستحقون من العقاب في معادهم ، ثم قال لرسوله : (
وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ) ففي كلمة إلا وجهان :
أحدهما : أنها للاستثناء ، ثم قال صاحب "الكشاف" : هذا كلام محمول على المعنى كأنه قيل : (وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة من ربك) ويمكن أيضا إجراؤه على ظاهره ، أي وما كنت ترجو إلا أن يرحمك الله برحمته فينعم عليك بذلك ، أي ما كنت ترجو إلا على هذا .
والوجه الثاني : أن إلا بمعنى لكن للاستدراك ، أي ولكن رحمة من ربك ألقي إليك ، ونظيره قوله : (
وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك ) (القصص : 46) خصصك به ، ثم إنه كلفه بأمور .
أحدها : كلفه بأن لا يكون مظاهرا للكفار فقال : (
فلا تكونن ظهيرا للكافرين ) .
وثانيها : أن قال : (
ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك ) الميل إلى المشركين ، قال
الضحاك وذلك حين دعوه إلى دين آبائه ليزوجوه ويقاسموه شطرا من ماله ، أي لا تلتفت إلى هؤلاء ولا تركن إلى قولهم فيصدوك عن اتباع آيات الله .
وثالثها : قوله : (
وادع إلى ربك ) أي :
[ ص: 20 ] إلى دين ربك ، وأراد التشدد في دعاء الكفار والمشركين ، فلذلك قال : (
ولا تكونن من المشركين ) لأن
من رضي بطريقتهم أو مال إليهم كان منهم .
ورابعها : قوله : (
ولا تدع مع الله إلها آخر ) وهذا وإن كان واجبا على الكل إلا أنه تعالى خاطبه به خصوصا لأجل التعظيم ، فإن قيل : الرسول كان معلوما منه أن لا يفعل شيئا من ذلك ألبتة ، فما فائدة هذا النهي ؟ قلنا : لعل الخطاب معه ولكن المراد غيره ، ويجوز أن يكون المعنى لا تعتمد على غير الله ولا تتخذ غيره وكيلا في أمورك ، فإن من وثق بغير الله تعالى فكأنه لم يكمل طريقه في التوحيد ، ثم بين أنه لا إله إلا هو ، أي
لا نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع إلا هو ، كقوله : (
رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ) ( المزمل : 9 ) فلا يجوز اتخاذ إله سواه .