صفحة جزء
أما قوله تعالى : ( تسر الناظرين ) فالمعنى أن هذه البقرة لحسن لونها تسر من نظر إليها ، قال الحسن : الصفراء هاهنا بمعنى السوداء ؛ لأن العرب تسمي الأسود أصفر ، نظيره قوله تعالى في صفة الدخان : ( كأنه جمالة صفر ) [المرسلات : 33] أي سود ، واعترضوا على هذا التأويل بأن الأصفر لا يفهم منه الأسود البتة ، فلم يكن حقيقة فيه ، وأيضا السواد لا ينعت بالفقوع ، إنما يقال : أصفر فاقع وأسود حالك والله أعلم ، وأما السرور فإنه حالة نفسانية تعرض عند حصول اعتقاد أو علم أو ظن بحصول شيء لذيذ أو نافع . ثم إنه تعالى حكى سؤالهم الثالث وهو قوله تعالى : ( قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون ) وهاهنا مسائل :

المسألة الأولى : قال الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " والذي نفس محمد بيده لو لم يقولوا إن شاء الله لحيل بينهم وبينها أبدا " ، واعلم أن ذلك يدل على أن التلفظ بهذه الكلمة مندوب في كل عمل يراد تحصيله ، ولذلك قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ) [الكهف : 23] ، وفيه استعانة بالله وتفويض الأمر إليه ، والاعتراف بقدرته ونفاذ مشيئته .

المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذا على أن الحوادث بأسرها مرادة لله تعالى فإن عند المعتزلة أن الله تعالى لما أمرهم بذلك فقد أراد اهتداءهم لا محالة ، وحينئذ لا يبقى لقولهم إن شاء الله فائدة . أما على قول أصحابنا فإنه تعالى قد يأمر بما لا يريد فحينئذ يبقى لقولنا إن شاء الله فائدة .

المسألة الثالثة : احتجت المعتزلة على أن مشيئة الله تعالى محدثة بقوله : ( إن شاء الله ) من وجهين :

الأول : أن دخول كلمة "إن" عليه يقتضي الحدوث .

والثاني : وهو أنه تعالى علق حصول الاهتداء على حصول مشيئة الاهتداء ، فلما لم يكن حصول الاهتداء أزليا وجب أن لا تكون مشيئة الاهتداء أزلية . ولنرجع إلى التفسير ، فأما قوله تعالى : ( يبين لنا ما هي ) ففيه السؤال المذكور وهو أن قولنا : ما هو طلب بيان الحقيقة ، والمذكور هاهنا في الجواب الصفات العرضية المفارقة فكيف يكون هذا الجواب مطابقا للسؤال ؟ وقد تقدم جوابه .

أما قوله تعالى : ( إن البقر تشابه علينا ) فالمعنى أن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا أيها نذبح ، وقرئ تشابه بمعنى تتشابه بطرح التاء وإدغامها في الشين و [قرئ] تشابهت ومتشابهة ومتشابه .

أما قوله تعالى : ( وإنا إن شاء الله لمهتدون ) ففيه وجوه ذكرها القفال :

أحدها : وإنا بمشيئة الله نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيلنا أوصافها التي تمتاز بها عما عداها .

وثانيها : وإنا إن شاء الله تعريفها إيانا بالزيادة لنا في البيان نهتدي إليها .

وثالثها : وإنا إن شاء الله على هدى في استقصائنا في السؤال عن أوصاف البقرة أي نرجوا أنا لسنا على ضلالة فيما نفعله من هذا البحث .

ورابعها : إنا بمشيئة الله نهتدي للقاتل إذا وصفت لنا هذه البقرة بما به تمتاز هي عما سواها ثم أجاب الله تعالى عن سؤالهم بقوله تعالى : ( إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ) وقوله : ( لا ذلول ) صفة لبقرة بمعنى : بقرة غير ذلول بمعنى لم تذلل للركوب وإثارة الأرض [ ص: 112 ] ولا هي من البقر التي يسقى عليها فتسقي الحرث و "لا" الأولى للنفي والثانية مزيدة لتوكيد الأولى ؛ لأن المعنى لا ذلول تثير وتسقي على أن الفعلين صفتان لذلول كأنه قيل لا ذلول مثيرة وساقية ، وجملة القول أن الذلول بالعمل لا بد من أن تكون ناقصة ، فبين تعالى أنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث لأن هذين العملين يظهر بهما النقص .

أما قوله تعالى : ( مسلمة ) ففيه وجوه :

أحدها : من العيوب مطلقا .

وثانيها : من آثار العمل المذكور .

وثالثها : مسلمة أي وحشية مرسلة عن الحبس .

ورابعها : مسلمة من الشية التي هي خلاف لونها أي خلصت صفرتها عن اختلاط سائر الألوان بها ، وهذا الرابع ضعيف وإلا لكان قوله : ( لا شية فيها ) تكرارا غير مفيد ، بل الأولى حمله على السلامة من العيوب واللفظ يقتضي ذلك لأن ذلك يفيد السلامة الكاملة عن العلل والمعايب ، واحتج العلماء به على جواز استعمال الظاهر مع تجويز أن يكون الباطن بخلافه لأن قوله : ( مسلمة ) إذا فسرناها بأنها مسلمة من العيوب فذلك لا نعلمه من طريق الحقيقة إنما نعلمه من طريق الظاهر :

أما قوله تعالى : ( لا شية فيها ) فالمراد أن صفرتها خالصة غير ممتزجة بسائر الألوان لأن البقرة الصفراء قد توصف بذلك إذا حصلت الصفرة في أكثرها فأراد تعالى أن يبين عموم ذلك بقوله : ( لا شية فيها ) روي أنها كانت صفراء الأظلاف صفراء القرون ، والوشي خلط لون بلون . ثم أخبر الله تعالى عنهم بأنهم وقفوا عند هذا البيان واقتصروا عليه فقالوا : ( الآن جئت بالحق ) أي الآن بانت هذه البقرة عن غيرها لأنها بقرة عوان صفراء غير مذللة بالعمل ، قال القاضي : قوله تعالى : ( الآن جئت بالحق ) كفر من قبلهم لا محالة لأنه يدل على أنهم اعتقدوا فيما تقدم من الأوامر أنها ما كانت حقة ، وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون المراد الآن ظهرت حقيقة ما أمرنا به حتى تميزت من غيرها فلا يكون كفرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية