(
ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق )
قوله تعالى : (
ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق )
واعلم أن هذا هو القصة الثانية ، وقوله : (
نعم العبد ) فيه مباحث :
الأول : نقول المخصوص بالمدح في (
نعم العبد ) محذوف ، فقيل : هو
سليمان ، وقيل :
داود ، والأول أولى لأنه أقرب المذكورين ، ولأنه قال بعده (
إنه أواب ) ولا يجوز أن يكون المراد هو
داود ، لأن وصفه بهذا المعنى قد تقدم في الآية المتقدمة حيث قال : (
واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب ) فلو قلنا لفظ الأواب ههنا أيضا صفة
داود لزم التكرار ، ولو قلنا إنه صفة
لسليمان لزم كون الابن شبيها لأبيه في صفات الكمال في الفضيلة ، فكان هذا أولى .
[ ص: 178 ] البحث الثاني : أنه قال أولا (
نعم العبد ) ثم قال بعده (
إنه أواب ) وهذه الكلمة للتعليل ، فهذا يدل على أنه إنما كان (
نعم العبد ) لأنه كان أوابا ، فيلزم أن كل من كان كثير الرجوع إلى الله تعالى في أكثر الأوقات وفي أكثر المهمات كان موصوفا بأنه (
نعم العبد ) وهذا هو الحق الذي لا شبهة فيه ، لأن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ،
ورأس المعارف ورئيسها معرفة الله تعالى ، ورأس الطاعات ورئيسها الاعتراف بأنه لا يتم شيء من الخيرات إلا بإعانة الله تعالى ، ومن كان كذلك كان كثير الرجوع إلى الله تعالى فكان أوابا ، فثبت أن كل
من كان أوابا وجب أن يكون ( نعم العبد ) .
أما قوله : (
إذ عرض عليه ) ففيه وجوه :
الأول : التقدير (
نعم العبد ) هو إذ كان من أعماله أنه فعل كذا .
الثاني : أنه ابتداء كلام . والتقدير : اذكر يا
محمد إذ عرض عليه كذا وكذا ، والعشي هو من حين العصر إلى آخر النهار عرض الخيل عليه لينظر إليها ويقف على كيفية أحوالها ،
والصافنات الجياد الخيل وصفت بوصفين :
الصفة الأولى : الصافنات ، قال صاحب "الصحاح" : الصافن الذي يصفن قدميه ، وفي الحديث "
كنا إذا صلينا خلفه فرفع رأسه من الركوع قمنا صفونا " أي قمنا صافنين أقدامنا ، وأقول : على كلا التقديرين فالصفون صفة دالة على
فضيلة الفرس .
والصفة الثانية للخيل في هذه الآية الجياد ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=15153المبرد : والجياد جمع جواد وهو الشديد الجري ، كما أن الجواد من الناس هو السريع البذل ، فالمقصود وصفها بالفضيلة والكمال حالتي وقوفها وحركتها . أما حال وقوفها فوصفها بالصفون ، وأما حال حركتها فوصفها بالجودة ، يعني أنها إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها على أحسن الأشكال ، فإذا جرت كانت سراعا في جريها ، فإذا طلبت لحقت ، وإذا طلبت لم تلحق ، ثم قال تعالى : (
فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي ) وفي تفسير هذه اللفظة وجوه .
الأول : أن يضمن أحببت معنى فعل يتعدى بعن ، كأنه قيل أحببت حب الخير عن ذكر ربي .
والثاني : أن أحببت بمعنى ألزمت ، والمعنى أني ألزمت حب الخيل عن ذكر ربي ، أي عن كتاب ربي وهو التوراة ، لأن ارتباط الخيل كما أنه في القرآن ممدوح فكذلك في التوراة ممدوح .
والثالث : أن الإنسان قد يحب شيئا لكنه يحب أن لا يحبه ، كالمريض الذي يشتهي ما يزيد في مرضه ، والأب الذي يحب ولده الرديء ، وأما من أحب شيئا ، وأحب أن يحبه كان ذلك غاية المحبة ، فقوله أحببت حب الخير بمعنى أحببت حبي لهذه الخيل .
ثم قال : (
عن ذكر ربي ) بمعنى أن هذه المحبة الشديدة إنما حصلت عن ذكر الله وأمره لا عن الشهوة والهوى ، وهذا الوجه أظهر الوجوه .
ثم قال تعالى : (
حتى توارت ) أقول الضمير في قوله : (
حتى توارت ) ، وفي قوله : (
ردوها ) يحتمل أن يكون كل واحد منهما عائدا إلى الشمس ، لأنه جرى ذكر ما له تعلق بها وهو العشي ، ويحتمل أن يكون كل واحد منهما عائدا إلى الصافنات ، ويحتمل أن يكون الأول متعلقا بالشمس والثاني بالصافنات ، ويحتمل أن يكون بالعكس من ذلك ، فهذه احتمالات أربعة لا مزيد عليها .
فالأول : أن يعود الضميران معا إلى الصافنات ، كأنه قال حتى توارت الصافنات بالحجاب ردوا الصافنات علي .
والاحتمال الثاني : أن يكون
[ ص: 179 ] الضميران معا عائدين إلى الشمس ، كأنه قال حتى توارت الشمس بالحجاب ردوا الشمس ، وروي
أنه صلى الله عليه وسلم لما اشتغل بالخيل فاتته صلاة العصر ، فسأل الله أن يرد الشمس فقوله : (
ردوها علي ) إشارة إلى طلب رد الشمس ، وهذا الاحتمال عندي بعيد والذي يدل عليه وجوه :
الأول : أن الصافنات مذكورة تصريحا ، والشمس غير مذكورة ، وعود الضمير إلى المذكور أولى من عوده إلى المقدر .
الثاني : أنه قال : (
إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ) وظاهر هذا اللفظ يدل على أن
سليمان عليه السلام كان يقول : إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي . وكان يعيد هذه الكلمات إلى أن توارت بالحجاب ، فلو قلنا : المراد حتى توارت الصافنات بالحجاب كان معناه أنه حين وقع بصره عليها حال جريها كان يقول هذه الكلمة إلى أن غابت عن عينه وذلك مناسب ، ولو قلنا : المراد حتى توارت الشمس بالحجاب كان معناه أنه كان يعيد عين هذه الكلمة من وقت العصر إلى وقت المغرب ، وهذا في غاية البعد .
الثالث : أنا لو حكمنا بعود الضمير في قوله حتى توارت إلى الشمس وحملنا اللفظ على أنه ترك صلاة العصر كان هذا منافيا لقوله : (
أحببت حب الخير عن ذكر ربي ) فإن تلك المحبة لو كانت عن ذكر الله لما نسي الصلاة ولما ترك ذكر الله .
الرابع : أنه بتقدير أنه عليه السلام بقي مشغولا بتلك الخيل حتى غربت الشمس وفاتت صلاة العصر ، فكان ذلك ذنبا عظيما وجرما قويا ، فالأليق بهذه الحالة التضرع والبكاء والمبالغة في إظهار التوبة ، فأما أن يقول على سبيل التهور والعظمة لإله العالم ورب العالمين ، ردوها علي ، بمثل هذه الكلمة العارية عن كل جهات الأدب عقيب ذلك الجرم العظيم ، فهذا لا يصدر عن أبعد الناس عن الخير ، فكيف يجوز إسناده إلى الرسول المطهر المكرم ! .
الخامس : أن
القادر على تحريك الأفلاك والكواكب هو الله تعالى فكان يجب أن يقول ردها علي ولا يقول ردوها علي ، فإن قالوا : إنما ذكر صيغة الجمع للتنبيه على تعظيم المخاطب ، فنقول : قوله : (
ردوها ) لفظ مشعر بأعظم أنواع الإهانة ، فكيف يليق بهذا اللفظ رعاية التعظيم ؟ ! .
السادس : أن الشمس لو رجعت بعد الغروب لكان ذلك مشاهدا لكل أهل الدنيا ، ولو كان الأمر كذلك لتوفرت الدواعي على نقله وإظهاره ، وحيث لم يقل أحد ذلك علمنا فساده .
السابع : أنه تعالى قال : (
إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد ) ثم قال : (
حتى توارت بالحجاب ) وعود الضمير إلى أقرب المذكورين أولى ، وأقرب المذكورين هو الصافنات الجياد ، وأما العشي فأبعدهما ، فكان عود ذلك الضمير إلى الصافنات أولى ، فثبت بما ذكرنا أن حمل قوله : (
حتى توارت بالحجاب ) على تواري الشمس ، وأن حمل قوله : (
ردوها ) على أن المراد منه طلب أن يرد الله الشمس بعد غروبها كلام في غاية البعد عن النظم .